الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صنّاع الخراب لا يصنعون مستقبلاً عن تونس واليقظة الممكنة

بواسطة azzaman

صنّاع الخراب لا يصنعون مستقبلاً عن تونس واليقظة الممكنة

البشير عبيد

 

ليس أخطر على وطن من أولئك الذين يتوهّمون أن التغيير الحقيقي لا يكون إلا بهدم ما هو قائم، وإشعال الحرائق في مؤسسات الدولة، تحت مسمى “القطيعة الثورية” أو “التطهير الجذري”. هؤلاء لا يسعون إلى الإصلاح ولا إلى البناء، بل يدمنون خطاب التقويض والانهيار، ويضعون أنفسهم فوق الجميع، ويختزلون الوطن في هواجسهم العقائدية أو انتقاماتهم السياسية. يتحدثون بلغة النار، ويزعمون أن الأمل لا يولد إلا من تحت الركام.

في تونس، كما في غيرها من البلاد التي اجتازت مراحل انتقال صعبة، ظهرت هذه الأصوات بقوة، مستفيدة من الهشاشة العامة، ومن التراخي أحيانًا في مواجهة من اعتبروا “رموز الخراب القديم”. لكن ما لا يدركه هؤلاء أن التدمير، وإن بدا جذابًا للوهلة الأولى، لا يصنع مشروعًا. أن تنقضّ على المؤسسات وتدعو إلى نسف كل ما تحقق، من قوانين وتنظيمات وركائز دولة، هو أن تعيد المجتمع إلى نقطة الصفر، بل إلى ما هو أسوأ: إلى فوضى لا تؤسس لغير التيه والانقسام.

تونس، التي أنجبت أجيالاً من المكافحين والمصلحين والمبدعين في مختلف الحقول، ليست أرضًا للعدم ولا حاضنة للفوضى. بل هي أمة تعلّمت من تاريخها القريب والبعيد، أنها تنهض كلما حاول البعض إسقاطها. وأنها في أحلك لحظاتها، تُنتج وعيًا جماعيًا يرفض الانتحار السياسي أو المغامرة الخطيرة التي لا ترى في الدولة غير غنيمة، أو في الثورة غير مناسبة للانتقام. ولذلك، فإن مواجهة هذا التيار الهدموي ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية تمسّ بقاء الدولة ومعنى العيش المشترك.

صراع الوعي في زمن الارتباك السياسي

لم تعد المعركة في تونس محصورة في السياسة وحدها، بل امتدت لتطال الوعي الثقافي للمجتمع بأسره. فالنزاع اليوم، في جوهره، هو بين وعيٍ يريد بناء مستقبل يستند إلى قيم المواطنة، والحرية، والعدالة، ووعيٍ مُشوّش، مشحون بأوهام أيديولوجية أو مطامع انتهازية، يختزل الصراع في معارك سطحية ويتهرب من الأسئلة العميقة.

لقد أنتجت السنوات الأخيرة حالة من الانقسام الحاد داخل المجتمع التونسي، ليس فقط بين فئات اجتماعية واقتصادية، بل أيضًا في الفهم العام لطبيعة الدولة، وحدود الثورة، ومعنى السيادة. وأصبحت القطيعة بين الدولة ومثقفيها، أو بين النخب الفكرية وقواعدها الاجتماعية، واقعًا ملموسًا. الإعلام، الذي يُفترض أن يكون رافعة للوعي وتنويرًا للرأي العام، تحوّل في جزء منه إلى منصات للتراشق أو لتبييض بعض المشاريع الفوضوية، مما أفقد المواطن بوصلته وزاد من ضبابية المشهد العام.

ومع ذلك، لا تزال هناك مساحات واعدة، وأصوات ثقافية متنورة ترفض هذا الانحدار، وتحاول إعادة الاعتبار للعقل، ولخطاب الإصلاح العقلاني العميق. هذه الأصوات تدعو إلى وعي جديد يُدمج فيه التاريخ بالراهن، والحرية بالمسؤولية، والتقدّم بالمصالحة مع الذات الوطنية. وعي يعترف بجراح الماضي دون أن يستسلم لها، ويراهن على الدولة لا كآلة بيروقراطية، بل كأفق جامع لتطلعات التونسيين، وكوعاء تتشكّل داخله كل صور التغيير المتدرج والعادل.

الرهان اليوم، إذًا، ليس فقط على من يحكم، بل على كيف نفكّر وننتج وننقد ونقترح. فإذا كانت النخبة التونسية مدعوّة اليوم إلى شيء، فهو الانخراط مجدّدًا في الفعل الثقافي المواطني، بعيدًا عن الاصطفافات الحزبية الضيقة، والدفاع عن الدولة من داخل منظومة الفكر، لا من هامش الاحتجاج الدائم. المعركة التي نخوضها لا تُحسم فقط في الميادين أو المؤسسات، بل أيضًا في الكتب، والصحف، والمسرح، والجامعة، والمقهى، وفي كل مساحة يُمكن أن يُصاغ فيها المعنى ويُدافع فيها عن الأمل.

لحظة مفصلية: التغيير لا يتم بحلم أو وهم

تونس اليوم تقف في مفترق طرق تاريخي لا يقبل أنصاف المواقف. لا هي عادت إلى الوراء، ولا هي تقدّمت بما يكفي لإغلاق جراح الماضي أو تجاوز إخفاقات المرحلة السابقة. هذه المرحلة الهجينة من الانتقال الديمقراطي المتعثر، والتجاذبات السياسية الحادة، تُشكّل لحظة اختبار حقيقية لإرادة التونسيين في حماية مشروعهم الوطني.

لكن التغيير المنشود ليس نزهة ولا صراخًا في الفراغ. هو رؤية شاملة، تشترط فهم اللحظة، واستيعاب تحديات الداخل والخارج، واستدعاء كل الأدوات المتاحة لبناء المستقبل دون اجترار أخطاء الماضي. إن الحلم بتونس أخرى — عادلة، قوية، سيّدة — ليس مجرد شعار، بل هو جزء من مشروع بدأ منذ عقود، دفع فيه كثيرون ثمنًا باهظًا من حرياتهم وأعمارهم وآمالهم. لكنه مشروع لم يكتمل بعد، ويكاد يُختطف اليوم من جديد من قبل من يتاجرون بالحلم أو يختزلونه في خطب غوغائية.

التغيير لا يتحقق من خلال الاجتثاث ولا من خلال الإنكار، بل عبر مواجهة الأسئلة الجوهرية: كيف نعيد الثقة إلى مؤسسات الدولة؟ كيف نضع حدًّا للفساد؟ كيف نصوغ عقدًا اجتماعيًا جديدًا يحترم الكرامة ويكفل العدالة ويحقق التنمية؟ هذه الأسئلة لا تحتمل التجاهل، ولا تجيب عنها اللجان، بل تحتاج إلى جرأة سياسية وثقافية، وإلى تحالف بين قوى المجتمع الحية، قاعديًا ومؤسساتيًا.

وهنا، يكون من الضروري الانتباه إلى أن العدالة الانتقالية، مثلًا، لا تعني الانتقام، وأن الإصلاح لا يعني النقمة، وأن النقد لا يعني العدمية. لقد تعب الشعب من الشعارات الكبرى، وهو الآن يريد حلولًا ملموسة، وبرامج واقعية، وخطابًا هادئًا، واضحًا، شجاعًا في نفس الوقت. وهو ما يتطلّب طبقة سياسية جديدة، ونخبًا فكرية متصالحة مع المجتمع، مؤمنة بإمكانية البناء رغم صعوبة اللحظة.

المعركة لا يقودها الجبناء

لم تعرف تونس يومًا كيف تخضع بصمت. منذ عقود، والمجتمع التونسي يقدّم النماذج في المقاومة المدنية، في التعليم، في الفكر، في الحقوق الاجتماعية، وفي معارك التحرر من الاستبداد. لذلك، فإن معركة اليوم، بكل تعقيداتها، لا يمكن أن تُترك للمترددين أو الانتهازيين أو المتاجرين بالأوهام.

 

المعركة الحقيقية في تونس لا تقودها نخب فاسدة اعتادت اللعب على الحبال، بل يصنعها نساء ورجال خبروا الشارع، وذاقوا مرارة الخذلان، لكنهم لم يفقدوا الإيمان. إنها معركة من أجل استرداد الدولة من براثن الفساد والمصالح الضيقة، لا للاستيلاء عليها، بل لإعادتها إلى التونسيين. إنها معركة ضد الفوضى بكل أنواعها، وضد المال السياسي، وضد التخوين، وضد من اختزل الديمقراطية في صندوق اقتراع خاوٍ من المعنى.

الجبناء يختبئون خلف تبريرات لا تنتهي: الوضع الإقليمي، الضغوط الدولية، هشاشة الداخل، المؤامرات. لكن الشجعان وحدهم من يرفعون راية البناء رغم العوائق، ومن يرون في كل أزمة فرصة، لا ذريعة للانسحاب. المعركة الآن هي معركة إرادة، ومسؤولية، وصبر، وبناء طويل النفس.

وما من مستقبل يُكتب لتونس إن تُركت في قبضة من يبيعون أوهامًا لا تصنع اقتصادًا، ولا تؤسس عدالة، ولا ترسخ سيادة. وحده مشروع وطني جامع، يقوده أناس يمتلكون النزاهة والمعرفة والشجاعة، يمكنه أن يعيد لتونس ملامحها، ويمنحها موقعها الذي تستحق بين الأمم.

 


مشاهدات 99
الكاتب البشير عبيد
أضيف 2025/07/26 - 3:18 PM
آخر تحديث 2025/07/27 - 7:08 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 192 الشهر 17834 الكلي 11171446
الوقت الآن
الأحد 2025/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير