الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
لماذا نحتاج الإمام الحسين الآن ؟

بواسطة azzaman

لماذا نحتاج الإمام الحسين الآن ؟

ياسر البرّاك

 

 

في زمنٍ تتداخل فيه مفاهيم الثورة بالشعبوية ، وتُختزل المقاومة في شعارات تسويقية خالية من الفعل التحرّري ، تُصبح الحاجة مُلحّة لإعادة تموضع الرموز التاريخية في سياق نقدي معاصر . إن إستدعاء الإمام الحسين بن علي ( عليه السلام ) في هذا الإطار ليس تكراراً لنمط بكائي مألوف ، بل قراءة جديدة له بوصفه أداة تحليلية ، ومفتاحاً لفهم العلاقة بين السلطة والضمير والعدالة . فالحسين ، كما نرى ، ليس "ذكرى" بل "رؤية مستقبلية" ، وليس "شهيداً فقط" ، بل فاعلاً تغييرياً إستشرافياً.

يميل التفكير التقليدي إلى حصر الإمام الحسين في بنية تاريخية مغلقة : كربلاء ، مظلومية ، شهادة . لكن التفكير السياسي النقدي يدعونا لتحرير الحسين من هذه البنية الرمزية ، ونقله إلى حقل المفاهيم السياسية . فالسؤال ليس "ماذا حدث في كربلاء ؟" ، بل : ما هي الإمكانيات الفكرية والسياسية التي تفتحها كربلاء لنا اليوم ؟

في هذا السياق ، يصبح الحسين ليس شخصاً فحسب ، بل بنية مفاهيمية مركبة : الضمير المقاوم ، الوعي الناقد ، التفكيك الرمزي للسلطة ، والقدرة على إنتاج معنى خارج الأطر السلطوية . هو ليس فقط من "رفض الظلم" ، بل من أعاد تعريفه .

لقد تمَّ "مأسسة" الحسين طوال القرون الماضية عبر التقديس الميتافيزيقي ، الأمر الذي حوَّله إلى رمز ساكن يُستَحضَر للبكاء لا للفعل . لكن العودة إلى خطابه ومواقفه تُظهر بوضوح أنه لم يكن يسعى إلى "الإستشهاد" بل إلى إحداث تحوّل جذري في بنية السلطة الإسلامية التي كانت تنزلق نحو نموذج إمبراطوري سلطوي .

فـــــ "خروجه"  لم يكن إنسحاباً أخلاقياً بل مشروعاً سياسياً مدروساً ذا طبيعة رمزية وفكرية ، يُراهن على هزّ البنية النفسية والثقافية للمجتمع ، لا على السيطرة العسكرية . وهذا النمط من الثورة "الرمزية" أو "الضميرية" يسبق النماذج الحديثة للمقاومة غير المسلحة كما في غاندي ومانديلا .

في قلب الحاجة المعاصرة للحسين تقبع علاقته المعقّدة بمفهوم الطاعة السياسية ، فالحسين لم يرفض السلطة لأنها من بني أميّة فحسب ، بل لأنها أُسِّست على نزع العلاقة الأخلاقية بين الحاكم والمحكوم . وهو بذلك أرسى مبدأ أن السلطة التي تفقد بُعدها الأخلاقي تفقد شرعيتها ، ولو جاءت من داخل الأمة نفسها .

ومن هنا تكمن أهمية الحسين اليوم : في زمن تتداخل فيه الأنظمة السياسية مع الدين ، وتُستخدم الرموز لتبرير الإستبداد ، يظهر الحسين كمن وضع أول لبنة لـــــ ( فقه العصيان ) وحق التمرّد على السلطة بإسم الضمير ، لا بإسم الهوية الطائفية أو السياسية .

إننا نعيش اليوم في عالم تُحتوى فيه الثورات وتُخصخص فيه المقاومات . يتحول المقاوم إلى "ماركة" والشهيد إلى "أيقونة إستهلاكية ". في هذا السياق ، تظهر الحاجة للحسين بوصفه أداة نقدية تفكك هذا الإحتواء . فالحسين رفض أن يكون جزءاً من النسق السائد ، ورفض الصمت ، ورفض التفاوض الذي يُذيب الموقف .

يُقدِّم الحسين بذلك ما يمكن تسميته بـــــ"اللاإنتماء الإستراتيجي" ، بمعنى : الوقوف خارج البنية ، لا إصلاحها من داخلها . وهذا ما يُميّزه عن كثير من النماذج "الثورية "المعاصرة التي تُستوعب داخل الأنظمة التي تدّعي معارضتها .

إن أعظم ما في الإمام الحسين أنه لم يُهزم في التاريخ ، بل ما يزال يتقدّم نحونا . في ظل الإحباط ، والسخرية السياسية ، وفقدان المعنى ، ويبدو أن الحسين لا يزال يحمل إمكانية لإستعادة الربط بين الموقف الفردي والتاريخ الجماعي . ليس بوصفه نبياً جديداً ، بل بوصفه "أملاً تحليلياً" في عالم بلا أمل .

إننا لا نحتاج الحسين بوصفه عَزاءً ، بل بوصفه أداة نقد ، وآلية إشتباك مع السلطة ، ومع اللغة ، ومع الذاكرة نفسها . نحتاجه كي نُعيد التفكير في معنى أن نقول ( لا ) في زمن تقول فيه الجماهير ( نعم ) للعبودية الطوعية .

حين نُعيد قراءة الحسين خارج حدود الطائفة والدين والتاريخ المغلق ، سنجده ليس فقط شهيداً قديماً ، بل بداية لمستقبل لم يكتمل . فالمعركة التي خاضها كانت معركة على المفاهيم : على معنى العدل ، والسلطة ، والضمير ، والمقاومة . وهي ذاتها المعركة التي ما زلنا نخوضها .

إن أخطر ما يمكن أن يُقال عن الحسين اليوم ، هو أنه لم يمت . لأنه لم يُستوعب . ولأن رسالته لا تزال تُقلق السلطة ، وتُحرّض الضمير ، وتُربك كل من حاول إحتواءه .


مشاهدات 61
الكاتب ياسر البرّاك
أضيف 2025/07/26 - 3:04 PM
آخر تحديث 2025/07/27 - 7:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 215 الشهر 17857 الكلي 11171469
الوقت الآن
الأحد 2025/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير