الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
توظيف الرمز في سرد حميد الحريزي المصابيح العمياء مثالاً


توظيف الرمز في سرد حميد الحريزي المصابيح العمياء مثالاً

عماد الحيدري

 

 يتخذ حميد الحريزي في سرده الرمز وسيلة تعبيرية لبث أفكاره التي ما فتئت تغترف من معين الواقع السياسي المعاش لضرورة الإيصال الفني إلى المتلقي بوصف الرمز وسيطاً تجربدياً يمكن له أن يلعب دور المراوغة في كشف الحمولات الدلالية فضلاً عن زيادة احتمالات التأويل التي من شأنها أن تمنح النصوص السردية مزيداً من الطاقة الإيحائية المنشودة. في مجموعته القصصية "المصابيح العمياء" الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف سنة ٢٠١٩ التي احتوت على أكثر من عشرين قصة قصيرة وأكثر من خمسين قصة قصيرة جداً اشتغل الحريزي على تقانة الرمز في كلا النوعين السرديين فلا تكاد تخلو قصة من قصصه من هذه التقانة باختلاف التوظيف وتباينه بين قصة وأخرى. في قصة "لعبة التوكي" ص١٣ يشير السارد إلى فكرة اجتماعية مهمة وهي زواج الأطفال التي اتخذ من أجل توصيلها رمزاً دلالياً له علاقة وشيجة بالطفولة وهو " المراجيح ودولاب الهوى" هذا الرمز الذي طاف كثيراً فوق أجواء القصة وترددت أصداؤه بين طياتها لتوطيد فهم الرابطة بينه وبين الطفولة وحاجتها إليه وليختم القصة بكشف الأثر السلبي لهذه القضية الاجتماعية فيقول بلهجة شعبية على لسان بطلة القصة: (ديرن بالجن أحد يقشمرجن وتروحن لدولاب الهوى)ص١٨ وهنا لعب السارد دور الواعظ الاجتماعي بوساطة هذا الرمز فالزواج في خياله يشبه دولاب الهوى الذي يصعد مرة ويهبط أخرى في مراحل دورانه المتعددة. وفي قصة "نداء طائر الحجل" ص١٩ وظف السارد هذا الطائر الوديع (الحجل) تحت مسمى (مشمش) ليرمز به إلى كينونة بشرية تعاني من وحشية التعامل معها وهنا محاولة لإدانة منظومة القيم العنفية في المجتمع عبر آلام هذا الطائر الافتراضية كما أشار إلى ذلك الناقد المرحوم عبد الرضا جبارة في مقالته المنشورة في المجموعة نفسها ص٢٧ فضلاً عن الإدانة المبطنة للأنظمة القمعية فيقول مثلاً: (فما عدت أستطيع العيش في مكان يضم شرطياً وسكيناً)ص٢٦ وهو ترميز واضح يشير إلى الحريات المقموعة والأنظمة المستبدة التي تتحكم بمقدرات الإنسان ولينتصر السرد هنا بوصفه فن المجتمع إلى قيم الحياة الكريمة داعياً إلى الإنضمام إلى صف الإنسانية. وفي قصة "عفن النجوم" ص٤٨ يرمز السارد إلى الإحتلال بوساطة رمز من رموز التشاؤم وهو الغراب الأسود الذي يقوم بتشويه نجوم العلم برشقات ذروقه، وهذه محاولة ناجحة في إشراك القارئ معه تناغماً بما يحس ويشعر به الوسط الشعبي الناقم على الإحتلال وهذا التناغم يجعل من السارد إبناً باراً لمجتمعه وبيئته التي انحدر منها ويجعل منه لساناً حراً ومرآة عاكسة لهموم أبناء جلدته ومعاناتهم وهو الدور الفعلي الذي تمارسه الفنون في حياة الأمم والشعوب. ولا نبتعد كثيراً حتى نُلفي هذا المعنى مبثوثاً بين طيات قصة "عرف الديك" ص٥٠ التي تحيلنا رمزيتها إلى الديكة التي تحولت بفعل ديكٍ دخيل إلى أشبه ما تكون بالدجاجات، والإشارة الرمزية هنا إلى الغازي أو المحتل ورمزية ديكة الجيران تشير بوضوح إلى تدخلات دول الجوار في الشأن الداخلي. وهنا يلعب السارد دور الراصد السياسي لما يدور حوله من أحداث تخص وطنه الذي عاثت به أيدي الغرباء فما كان من الفنان المستشعر بمرارة الأحداث إلا أن يستنكر الصمت الرسمي عبر تقانة الترميز لتكون مساحة الانتقاد أرحب ودائرته أوسع. وأما في قصص الحريزي القصيرة جداً فقد يتجسد الرمز جلياً عبر استعماله مصطلحات جديدة لا تخلو من الإثارة والمفارقة ولاسيما في عنواناتها فنجد مثلا: التفئير والمصابيح العمياء وصلاة الثعالب والديكة الخرساء وغيرها من العنوانات ذات الحمولات الدلالية الباذخة فضلاً عن متونها السردية التي تومئ بالاقتصاد اللغوي وتضمر حجوماً دلالية هائلة ففي قصة " هبة السلطان" ص١٤٢ ذات السطرين ونصف السطر نلحظ اقتصاداً لغوياً واضحاً يخفي ترميزاً دلالياً كبيراً إلى وعاظ السلاطين على مر العصور وأثرهم في تمدد الطغيان وتقوية شوكته ليسلط سياطه اللاذعة فوق ظهور الرعية. وفي قصة " المصابيح العمياء " ص١١٤ مفارقة واضحة في العنوان تستوجب قراءتها عدة مرات لاستنطاق كوامنها وإثارة الأسئلة حول أسباب عمى المصابيح التي يفترض منها أن تكون دلائل لوضوح الرؤية حتى نكتشف بعد قليل بأنها تحتاج إلى استبدال لأنها لم تعد قادرة على تمييز الجمال، والترميز هنا إلى تقدم العمر وضعف البصر. وفي قصة " الرأس المفجوع" ص١١٥ ترميز مبطن يشير إلى تفشي الظلم والطغيان في العالم: (ألا ترى تزايد أعداد غياب ذوي الوجوه السود أثناء عرض الحضور اليومي وزيادة حضور زملائي من ذوي الرؤوس المقطوعة) ص١١٥ وعلى هذا فقد تمكن حميد الحريزي في مجموعته هذه من إصطحابنا إلى عوالمه المثيرة عبر توظيفه تقانة الرمز مدللاً على براعة حسية مدهشة واستشعار لما يدور حوله بروحية الفنان المرهف


مشاهدات 48
الكاتب عماد الحيدري
أضيف 2025/07/08 - 2:33 PM
آخر تحديث 2025/07/09 - 1:23 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 417 الشهر 5231 الكلي 11158843
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير