الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الصمت الذي يُنطق: موسى والخضر ويوشع في رحلة الإدراك الغيبي

بواسطة azzaman

الصمت الذي يُنطق: موسى والخضر ويوشع في رحلة الإدراك الغيبي

سعد محمد الكعبي

 

حين تتكلم الأرواح: قراءة فلسفية في لقاء موسى والخضر

في عصرنا الراهن، حيث تُختزل المعرفة غالبًا إلى بيانات رقمية وحقائق مادية قابلة للقياس، يزداد ارتباطنا بالظاهر والمحسوس. نثق بما نرى ونسمع ونلمس، ونعتبر الكلمات هي الوسيلة الأسمى للتواصل والفهم. لكن ماذا لو كان للوجود مستويات أعمق من الإدراك والتواصل، تتجاوز حدود المنطق المادي واللغة المنطوقة؟

هذا التساؤل الفلسفي العميق لا يبقى مجرد تأملات مجردة، بل يجد تجليه الأبلغ في قصة فريدة من نوعها، لم ترد تفاصيلها إلا في آيات القرآن الكريم, لقاء النبي موسى عليه السلام بالعبد الصالح، الخضر. إنها ليست مجرد حكاية، بل هي خارطة طريق لفهم طبيعة العلم الإلهي، وكيف يمكن للبصيرة أن تتفوق على البصر، وأن تدرك القلوب ما لا تستوعبه العقول وحدها.

ما يثير الدهشة حقًا هو أن هذه القصة، بكل تفاصيلها المدهشة من خرق السفينة إلى قتل الغلام وبناء الجدار، بقيت حكرًا على الذكر الحكيم. لم تسردها لنا كتب التاريخ البشري، ولا نُقلت عن الجن أو غيرهم. هذا التفرد القرآني ليس مصادفة، بل هو تأكيد على أننا أمام نص ,غَيْبِي بامتياز، لا يمكن للوعي البشري المحدود أن يدركه إلا بإذن وإعلام إلهي خالص. هذه الحقيقة وحدها تدعونا للتوقف والتأمل, إذا كان مصدر القصة غيبيًا، فهل طريقة التواصل فيها كانت هي الأخرى تحمل طابعًا غيبيًا يتجاوز المألوف؟

هنا ينبثق سؤال جوهري يمس جوهر الإدراك الفلسفي والروحي, هل اقتصر تواصل موسى والخضر على تبادل الكلمات المنطوقة التي جاءت في النص القرآني؟ أم أن ثمة حوارًا أعمق، تبادلاً للأفكار في الخلد، أو تفاهمًا على مستوى الروح يتجاوز الحاجة إلى النطق العادي، خاصة وأنهما من الأولياء المقربين لله، أحدهما نبي عظيم، والآخر آتاه الله علمًا لدنيًا؟

إن القول بإمكانية هذا التواصل الباطني ليس ضربًا من الخيال، بل يتسق مع جوهر العلم اللدني الذي يتجلى للخضر. هذا العلم لا يُكتسب عبر الكتب أو الأساتذة، بل هو إلهام مباشر من الخالق، بصيرة نافذة إلى بواطن الأمور وحكمتها الخفية. وإذا كان الله يلهم عبده المعرفة دون وسيط مادي، فهل يعجز عن أن يُلهم روحين متصلتين به حوارًا أعمق من مجرد الكلمات؟

الشاهد الصامت, لغز ,فتاه

وما يزيد هذه القصة غموضًا وعمقًا هو وجود شاهد ثالث على هذا اللقاء الاستثنائي، وهو ,فتاه, موسى، يوشع بن نون عليه السلام. القرآن يذكره كرفيق لموسى في رحلته، لكنه لا يذكر له كلمة واحدة في كل الحوارات والتفاعلات التي جرت بين موسى والخضر. يوشع كان حاضرًا، يرى ويسمع الظاهر من الأحداث والكلام، لكنه ظل صامتًا تمامًا.

هذا الصمت ليس مجرد تفصيل عابر. إنه يطرح تساؤلاً آخر: هل كان يوشع، بصفته فتى موسى وتلميذه، قادرًا على إدراك ما وراء الكلمات؟ أم أن طبيعة الحوار العميق بين موسى والخضر كانت على مستوى من الإدراك لم يكن بوسع يوشع أن يشاركه فيه، مما جعله شاهدًا على ظاهر الحوار دون باطنه؟ هذا الصمت يعزز فكرة أن ما جرى بين النبي والعبد الصالح كان خاصًا جدًا، ومقدسًا جدًا، وربما سريًا جدًا، لدرجة أن حتى أقرب رفقاء موسى لم يُقدر له أن يشارك فيه بالقول أو حتى بفهم كل أبعاده.

دعوة للغوص في عمق الإدراك

لقاء موسى بالخضر لم يكن رحلة تعلم عادي، بل كان تحولاً في طريقة الإدراك؛ تعلم كيف يُنظر إلى الحوادث من منظور الحكمة الباطنية، وكيف تُفهم الأقدار لا بظاهرها المباشر، بل بعمقها الذي لا يراه إلا صاحب البصيرة. هذا التحول غالبًا ما يتطلب أكثر من مجرد الكلمات؛ يتطلب اتصالًا روحيًا عميقًا يسمح بتجاوز الحجب الظاهرية للوصول إلى جوهر الحقيقة. ربما كانت الكلمات مجرد ترجمة ضرورية لمقام التبليغ أو لتأكيد الفهم النهائي، بينما كان جوهر الإدراك والمعرفة يتدفق على مستوى أعمق، في سكون القلب وصفاء الروح.

 النهاية ليست جوابًا... بل بداية لسؤال أعمق

في زمن تضج فيه حياتنا بالضوضاء الرقمية والمعلومات الزائدة، تدعونا قصة موسى والخضر، ومعها لغز فتاه الصامت، إلى الصمت قليلًا، وإلى الإنصات لما لا يُسمع، وإلى النظر بعين البصيرة لا بعين البصر فقط. إنها دعوة للغوص في عمق الأشياء، والتسليم بأن هناك ما هو أعمق من السطح، وأن الله قادر على أن يجعل أرواح عباده تتخاطب بأسرار لا تدركها ألسنة البشر,فهل نحن مستعدون لإعادة تشكيل فهمنا للتواصل، ولنحتضن احتمالية وجود أبعاد خفية للمعرفة تتجاوز مجرد الكلام والظاهر المادي؟


مشاهدات 94
الكاتب سعد محمد الكعبي
أضيف 2025/07/08 - 2:34 PM
آخر تحديث 2025/07/09 - 2:32 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 103 الشهر 4917 الكلي 11158529
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/9 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير