التصنيفات .. الحاجة إلى الشفافية والتهويل
إسماعيل محمود العيسى
بين كل عاصفة رقمية تمرّ على التعليم العالي؛ يُطرح سؤال بسيط لكنه جوهري: هل نعرف حقًا موقعنا من خارطة الجودة؟ أم أننا ننتظر الآخرين ليصنّفونا؛ ثم نُقرر بعدها إنكار ما قيل أو الدفاع عنه؟ الجدل الأخير حول ما سُمي بـ”تصنيف العَلَم الأحمر” أعاد إلى السطح مسألة ليست جديدة؛ لكنها مؤجلة: أين تقف جامعاتنا من معايير النزاهة البحثية، وما الذي نحتاجه لنُقيم أنفسنا قبل أن يُقيّمنا غيرنا؟
بعيدًا عن دقة ما نُشر أو صدقيته؛ فإن مجرد انتشار الموضوع بالشكل الذي رأيناه، يكشف عن ثغرة في خطابنا العلمي؛ غياب منصة رسمية موحدة تشرح للداخل قبل الخارج ما هي مؤشراتنا المعتمدة، وما الفرق بين مقال صحفي ومؤشر عالمي؛ بين رأي فردي وتصنيف مؤسسي. ولأن المؤسسات لا تُبنى على ردود الأفعال؛ فإن المسار الصحيح لا يبدأ بنفي الاتهامات، بل بإثبات الشفافية، هذا لا يعني القبول بأي كلام يُقال؛ لكنه يعني أن نُحسن إدارة النقاش، لا أن نخنقه؛ أن نملك لغة علمية تخاطب المجتمع قبل أن ترد على المقالات؛ أن نُعيد تشكيل ثقافة النشر العلمي؛ لا على أساس الخوف من التصنيف؛ بل على أساس احترام البحث كقيمة، لا كوسيلة للترقية فقط. إن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بذلت في السنوات الأخيرة جهدًا معتبرًا في ربط الترقيات والنشر بالمستوعبات العالمية؛ وحرصت على التحذير من المجلات المفترسة؛ وأطلقت برامج لمراقبة جودة النشر؛ لكن هذه الجهود تبقى بحاجة إلى دعم داخلي أكبر من الجامعات ذاتها؛ عبر لجان علمية أكثر خبرة؛ وبيانات دقيقة تُحدث باستمرار؛ ومراكز تُحلل وتُتابع الاتجاهات البحثية بعيون محلية ومعايير دولية. ليس كل ما يُكتب عنا عدائيًا؛ وأحيانًا يأتي التحفيز في ثوب النقد، فالجامعات التي تُدرك قيمة التقييم الذاتي؛ هي التي تبني مؤسسية حقيقية؛ والباحث الذي يعرف موقعه من العالم العلمي، هو من لا يخشى التصنيفات، بل يصنعها، إن الخطوة المقبلة لا تكمن في محو الأثر الرقمي لما قيل؛ بل في تقديم خطاب أكثر ثقة؛ مستند إلى أرقام حقيقية؛ وإصلاحات قابلة للقياس.
وحين نُدرك أن النقد قد يحمل فرصة؛ وأن الشفافية لا تُضعف المؤسسات بل تُقوّيها؛ نكون قد بدأنا فعلاً الطريق نحو جامعة تُقيّم ذاتها؛ وتدافع عن سمعتها لا بالصوت العالي؛ بل بالفعل العميق.