الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مَن أخرس البنادق وفتح أبواب الموصل من الداخل ؟ 

بواسطة azzaman

نينوى .. شهقة الطين التي صارت مدينة

مَن أخرس البنادق وفتح أبواب الموصل من الداخل ؟ 

رائد فؤاد العبودي

 

في الموصل، لا يبدأ التدوين من حجر، ولا يُكتب الزمان برموز الأرقام، بل يبدأ من تجعيدةٍ في جبين التاريخ، حين نزل على ضفة دجلة، فتكوّنت مدينةٌ على هيئة شهقةِ لغة وارتباكِ طينٍ جفّ ليُصبح ربيعين.

الحدباء ليست مكانًا، بل تقاطعُ جغرافيا، ورعشةُ خرائط، ومجازٌ تأخّر عن العودة إلى ذاته. مدينةٌ تتنفس الوجود ببطء، وتهمس في أذن الكون: “ لا تصدقوا السقوط ! “

منارةٌ تصحو كل صباح لتغسل وجهها بطيبة العجائز، وبريق النجوم، ولمعان السيوف على أكتاف أبنائها. لم تنحنِ يومًا إلا للصلاة، أو لالتقاط وجهٍ سقط من يد القمر.

وعندما كان الوطن كلّه يتنفس الصدأ من رئة الحصار الثقيلة، ويلوك عجاف التسعينيات بفمٍ متشقّق كأرضٍ نسيها المطر، كانت شبابيك الموصل تنثُّ البخور، وكانت الكرامة تُخبَزُ في فرنٍ توقده نارُ الصبر والأنفة، وتُقدَّمُ رغيفًا لكريمٍ جاعَ بصمت، وما مدَّ يده إلا للسماء.

تراب الجنوب

كانت الموصل ترتدي زي الجنود المصبوغ بلون حقول العنبر، كأنه حُلّة عرسٍ نسجتها أصابع الرصاص، وتغفو على زنودهم السمر، التي نبتت من تراب الجنوب كأشجار نخيل مسنّنة بالبارود والعهود.

كان أولئك الفتية الجنود، يصونون خِدر الموصل بعهد المضيف وشرف العشيرة، وبأصواتٍ مبحوحةٍ تمتزج برائحة التمر، وتتمايل مع قامات البردي، وتتغلغل في عذوبة الحزن بطور الحياوي، يغنون لها أغاني الغيرة النبيلة.

وفي الليلة التي سبقت الانكسار، كانت أحلام الجنود تتصاعد من أفواههم كدخان البخور في أضرحة المراقد. يحلمون بأطفالٍ لم يعودوا إليهم، وبأمهاتٍ ينتظرن على عتبات بيوت الطين في الناصرية والعمارة والبصرة.

في تلك الليلة، كانت أرواحٌ تلوذ بما تبقّى من الوطن، تتحطم على جدران الأوامر المشبوهة، القادمة من ذلك المكان البعيد، حيث يلهو القادة بالنرد على خرائط من جلد الوطن.

الخيانة لم تأتِ على صهوة الدبابات، بل تسلّلت كسائلٍ أسود في عروق المدينة. كانت الشوارع تُباع تلو الأخرى، وكانت النوافذ تُغلَق بخيوط العنكبوت السياسية، وكان القادة يوقّعون على وثائق الاستسلام بأقلامٍ من عظام الشهداء.

في تلك الليلة، لم تكن السماء مظلمة… كانت تمطر نجوماً مشوّهة، تنزل على خدّ المدينة، وتبكي قمرًا يشبه قلبًا أصدأه النسيان، وتُرك مهملًا في درج القدر.

كانت الرادارات، بعيونها المعدنية، تقرأ حتى تثاؤب الغروب في جبين المدى. وفجأة، أغمضت جفونها دفعةً واحدة، كما لو أنها استسلمت لنعاسٍ مطمئن، بعدما همس أحدهم في أذنها: “ نامي، أيتها العيون الحديدية التي ترصد كل شيء… فكلّ شيء، كلّ شيء على ما يرام. “

لكن الشر لم يزحف إلى الموصل في عربات مدرعة، ولا حلّق بطائرات من وهم، بل تسلّل همسًا، كظلّ يسيح على أرصفة الذعر. أما البنادق، فكانت مقيّدة بأعمدة الصمت، تصدأ بهدوء، وتتجنب النظر إلى المنارة… كأنها تخجل من خيانتها.

وفي المساء، حين خفّت وطأة العار على جبين الخضراء، ارتفع صوتٌ يخرج من خوذة جندي مثقوبة برصاصة قناص:

كيف صمتت المآذن؟ وكيف أُخفيت التكبيرات في أدراج التقارير المزوّرة والممهورة بإمضاءات القادة المُزيّفين؟

كيف سقطت المدينة ولم تسقط القلوب؟

أنا لم أهرب… الموصل لم تُغزَ… فمن أمر بإخراس البنادق وفتح أبواب المدينة من الداخل؟

وفي الصباح، همست الشمس للنهار ألّا يُكثِر من الضوء حتى لا يستيقظ العار. رمت حجابها ومضت نحو الغروب، ترفض أن تشرق فوق مدينةٍ اغتُصبت دون صراخ.

وفي الطرقات، كانت الأرصفة تفرك جفونها المتعبة، وتسأل الأسفلت: “هل رأيت؟” لكن الأسفلت لم يُجب… كان مشغولًا بإخفاء آثار الخطى، خطى الذين دخلوا، والذين هربوا.

وهناك، في الزاوية القصيّة من العرش، كان الله يراقب وحسب! لم يُرسل طوفانًا، لم يشقّ بحرًا، لم يُحيِ جيشًا من عظام.

فقط… يراقب، بعينين تشتعلان بالخذلان!!

لم يكن الله عاجزًا… لكنه كان يشاهد من شرفة الغيب، نصًّا كُتب خارج مشيئته، نصًّا صاغه الطغاة الذين نصّبوا أنفسهم آلهة.

والله… لا يشارك في عروض الخيانة.

حين يعوي النفط ويصمت بويب !

  النفطُ لا يُضيء المصابيح في البصرة ، بل يُطفئ النور في وجوه الجنوبيين، ليضحك عليهم من عُلوٍّ كشيطانٍ يقتات على ظلامهم، وكل قطرةٍ منه بثِقلِ لعنةٍ تخطف الأرواح، كما تُخطف السنابل في ليلِ الحصادِ المسموم.

وحين التقت دجلةُ بالفرات في عنق البصرة، سكبا في فم البساتين التي كانت تنتظر العسل… مرارةَ الملح.

آهٍ، أيّها النهران، كيف صرتما نهراً من خيانةٍ يرقص على جراح “العذبِ الموعود” كعاشقٍ كسيحٍ يُغنّي في مأتم؟

من الذي قطع وتر الطرب في قلب الخشّابة؟

من دسّ سمَّ الكآبة في رقصاتها، ودفن دفوفها في بطن الجهل؟

من استبدل رقصَ العشّار القادم من أحشاء الهند وسواد أفريقيا، بموكبِ لطمٍ كالحٍ، كأنّه عويلٌ جماعيٌّ مبرمج؟

من أغوى النخلةَ السامقة أن تدمي هامتها على ذاكرةِ حزنٍ شرّعهُ فرمانُ قداسةٍ زائفة؟

كانت النخلة تتوضأ من ماء العشّار، وتفترش خدّ الزبير للصلاة.

فمن شطر قلب عمتنا النخلة ليسرق جُمارها الأبيض الطري، ليمضغه بأنفاس محتلٍّ محلي، ثم يبصقه على الشناشيل بزفرةِ حقدٍ كأنّها سعالٌ لا يُشفى؟

وفي آخر مسامّةٍ من جسد الفاو، تتخضّب أشجار الحنّاء بدماء الذين قُتلوا في حفلةِ غدر.

ذراتُ الرمل تلتفت شرقًا، وتلعن الشمرَ الذي لا يزال يعصر العطش كأنها مهنته الأزلية.

شمرٌ جديد، يمشي خلفه جيشٌ من ميليشيا ودخان وخراب.

أيُّ قدرٍ هذا يا بصرة؟

قدرٌ يطلّ من لحيته الكثّة ألفُ شيطان، وتحت كلّ شعرةٍ نفقٌ من عتمة، وعباءةُ ليلٍ لا تستر العُري، بل تخنق الضوء وتمنع همس المدينة.

في البصرة، ينبت الحنين أشواكًا تورق على ضفافِ الأغاني المنسيّة.

وفي كل بيتٍ، يبكي عودٌ مكسور خلف صمتِ الأبواب المغلقة.

والشناشيل، نوافذُ الحلم لعذارى البيوت الغافية في حضن الأمان، صارت فجواتٍ لرصاصٍ طائش يبحث عن طفلٍ لا يفهم معنى الحرب.

والأزقة التي كانت تهمس بالعشق، تتلو آياتِ الخوف على أرصفةٍ لوّثها حارسٌ ليليٌّ مزيّف.

كان الفاو مرسًى للنوارسِ والأمل، ومضيفًا من برديٍ للسفّانة الذين أتعبهم الموج.

وفي زمنٍ تُغتال فيه الأقلام وتُصلبُ على جذوعِ النخيل الكلمات، تحوّل الميناء إلى مقبرةٍ تطفح بملايينِ التوابيت الحديدية، المغلقة على الفضائح، والطافحة بالأكاذيب.

وفي المربد، يئنُّ الشعراء من دواوين تُقرأ بأسمائهم ولم يكتبوها، ودواوينَ كتبوها وصادرها الرقيب.

تحوّلت البصرة إلى ذاكرةٍ مكسورة، تمشي على عكّازٍ مائل، يقودها من عنقها لصٌّ قديم، يرتدي قناع الشرف، ويجرُّ خلفه قافلةً من الجِمال المحمّلة بالبترول المسروق.

من يُنقذ البصرة التي تعلّمت البكاء بدمعٍ من سُخام، والضحك بأسنانٍ من فخّارٍ مكسور؟

من يُعيد تقويمَ أطرافِ نخلها التي بترتها الحروب؟

من يُشفي جُرحَها النازف بالنفط الأسود على امتدادِ جسدِ العراق؟

من يُذيب الزلالَ في ملوحةِ شفاهها؟

من يرفع قدمَ المهوّالِ عن قصائدها المتحرّرة؟

ومن يمحو خطَّ التالوك عن فمِ شطّ العرب، ليبتسم من جديد؟

انحنت رقبة السيّاب، حين صار المُخبرُ السريُّ يُفتّش القصيدة في سراب القانون، وصار “ بويب “ ساقيةً للحنين اليابس، ينهشه العطش كيتيمٍ يعضّ ثديَ تمثال أمه في المنام.

كان السيّاب ينزف، ولم يُدهش، حين انهمر الحرف من بين أضلعه كدمٍ أخضرٍ يشقُّ الورق:

« إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون!

أيخون إنسانٌ بلادَه؟

لم تكن تلك كلماتٍ وحروفًا، بل شهقةَ وطنٍ مذبوح، من حنجرةِ شاعرٍ جلس على فخذِ الخليج، يبكي وجعه كأنّه نايٌ كُسر في مهبّ الغربة.

وكانت “ جيكور “ تلوّح له من بعيد، من فوق هامةِ المدى، من مسافةٍ لا تُقاس بالأمتار، وإنما بالشهيق الذي يسبق الزفرة، وبُعد القلب عن صوته، ونأي القصيدة عن منفاها.

من كان السيّاب يقصد بالخائنين؟

أكان يعني أولئك الذين يبيعون الوطن كما يُباع الدفء في سريرِ عاهرة؟

أم أولئك الذين يغمسون فتاتَ الخيانة في صحنِ العراق، ويُطعمون به الولاء في فمِ العدو؟

لون الليل

قدرُ الأوطان مكتوبٌ على جبينها بلونِ الليل: “ ستولد أيّها الوطن، ويولد من بين أولادك خائنٌ يشبه ابنك… ويطعنك كغريب. “

أيّ فنتازيا سوداء هذه التي يتحوّل فيها الخائن من ذليلٍ إلى سيّد، ومن جلادٍ إلى رمز، ومن لعنةٍ إلى نشيدٍ وطني ؟!

في البصرة، انتزعوا الله من وجه القمر، محوه من انعكاساتِ شطّ العرب، وأبدلوه بظلّه على الأرض.

لكن ظلَّ الله لا يُضيء، ولا يمنح الرحمة، بل يمشي على حوافّ الضمائر بسكاكين حادّة، كأنّه شمرٌ آخر، يزهو بعمامةٍ سوداء اقتُلعت من جسدِ الحسين… حيث لا رأس له ليحميها.

السماءُ نفسها أصبحت مشكوكًا في نواياها،والقمرُ أصبح يضيء فقط… لمن يعرف كيف يخون.

 

 


مشاهدات 60
الكاتب رائد فؤاد العبودي
أضيف 2025/04/25 - 6:07 PM
آخر تحديث 2025/04/26 - 10:37 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 572 الشهر 28039 الكلي 10908686
الوقت الآن
السبت 2025/4/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير