إقتصادي جعل من المعرفة موقفًا
وليد الحيالي
في كل أمة تمرّ بها مراحل انتقال وصراع، يبرز فيها رجالٌ يُمثّلون الضمير الحي لعقلها الجمعي، والموجه الأخلاقي لسلوكها السياسي والاقتصادي. والدكتور محمد سلمان حسن واحدٌ من هؤلاء النادرين، الذين لم يكتفوا بالتنظير الأكاديمي، بل ارتبطوا بقضايا شعوبهم ارتباطًا وجوديًا، وكانوا أوفياء للمعرفة، كما كانوا أوفياء للحق.
في ذكرى رحيله، تعود إلينا صورة الدكتور محمد سلمان حسن لا كأستاذ جامعي وحسب، بل كرمز للعلم الملتزم، ومفكر طليعي تصدّى لأكثر القضايا تعقيدًا في الاقتصاد العراقي والعربي، بعين العالم وقلب الوطني الغيور.لقد كان من أوائل من حلّلوا البنية الريعية للدولة العراقية، محذّرًا من آثار الاعتماد شبه الكامل على إيرادات النفط، ومناديًا بتفعيل الإنتاج الوطني وتبني سياسة تنموية مخططة. في كتابه المرجعي “التطور الاقتصادي في العراق”، قدّم تشريحًا دقيقًا لمراحل الاقتصاد العراقي ما بعد الاحتلال البريطاني وحتى الستينيات، مبرزًا تعارض المصالح بين البرجوازية الوطنية والقوى الأجنبية والطبقات الطفيلية.أما في كتابه “قضايا التخلف والتبعية في الوطن العربي”، فقد كشف بوضوح عن آليات السيطرة الإمبريالية الجديدة، موجهًا نقدًا لاذعًا للبنك الدولي وصندوق النقد، محذرًا من خطط الخصخصة التي تبتلع القطاع العام وتزيد من التفاوت الطبقي. في كل ما كتب، كان ضميرًا حيًا للعقل الاقتصادي العربي، لم يساوم على مبادئه رغم الضغوط، ولم يتردّد في إعلان مواقفه الوطنية حتى وهو يعلم كلفتها الشخصية والمهنية. فطورد، وأقصي، لكنه لم ينكسر، بل زاده ذلك عزيمة على ترسيخ الفكر النقدي في عقول طلبته، وترك أثرًا عميقًا في كل من عرفه أو قرأ له. عمل أستاذًا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بغداد، وكان يشتهر بنقاشاته العميقة، وصبره على طلابه، وميله لتربية عقل مستقل قادر على التحليل والتفكيك. لم يكن يلقّن المعلومات، بل يدفع إلى مساءلتها. في رحيله، نفتقد ليس فقط عالمًا مرموقًا، بل قيمة إنسانية نادرة، وأحد آخر أعمدة جيل من المفكرين الذين جمعوا بين الصرامة العلمية والانحياز للعدالة. سيظل الدكتور محمد سلمان حسن حيًا في صفحات الفكر الاقتصادي، وفي ذاكرة من حملوا شعلة الحرية والتنمية في عالمنا العربي.
رحمه الله وجزاه عن علمه وجهده خير الجزاء.