الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في مصادر المعرفة الأدبية


في مصادر المعرفة الأدبية

عادل الثامري

 

يعد الأدب وسيطًا حيويًا لنقل المعارف والتجارب والمشاعر الإنسانية وحفظها. فهو يعكس تعقيدات الحياة، ويقدم للقراء رؤى عن الثقافات المختلفة واللحظات التاريخية والرحلات الشخصية. ومع ذلك، فإن فهم مصدر هذه المعرفة ضروري للولوج بعمق في النصوص الأدبية. تدرس ابستمولوجيا النصوص الأدبية - دراسة كيفية توليد المعرفة الأدبية وفهمها ونقلها - العمليات التي يصبح الأدب بواسطتها وسيلة للمعرفة. تنشأ المعرفة الأدبية، كمجموعة فرعية من هذا الإطار المعرفي الأوسع، وذلك من تفاعل بين المصادر التاريخية والاجتماعية والشخصية والإبداعية.

السياقات التاريخية والثقافية

تُعد السياقات التاريخية والثقافية من مصادر المعرفة الأدبية الاساسية، اذ أنها تشكل الموضوعات والأساليب والرسائل المحمولة في النصوص الأدبية. وغالبًا ما يعكس الأدب الأحداث التاريخية المهمة، ويوفر للقراء وسيلة لفهم تعقيدات المجتمعات. يعمل الأدب بوصفه نتاجا ثقافيا يرتبط بالزمان والمكان اللذين نشأ فيهما. ويغرس المؤلفون بوعي أو من دون وعي في أعمالهم اهتمامات ومعتقدات وقيم سياقاتهم التاريخية.

وتلعب التقاليد الثقافية أيضًا دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات الأدبية. وقد أبرز إدوارد سعيد، في عمله الأساسي "الاستشراق"، كيف أن الأدب الغربي بنى تاريخيًا صورًا عن "الشرق" استنادًا إلى المواقف الإمبريالية والتفوق الثقافي. وبهذا المعنى، أصبح الأدب انعكاسًا للأيديولوجيات الثقافية المهيمنة وتعزيزًا لها. يؤكد عمل سعيد على فكرة أن المنظورات الثقافية غالبًا ما تشكل ما يتم تضمينه أو استبعاده من التمثيل الأدبي.

علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال تأثير الفولكلور والأسطورة والدين على الأدب. فكثيرًا ما يعتمد الكتّاب على هذه العناصر الثقافية لصياغة نصوص تلقى صدى لدى جمهورهم. ويوضح مفهوم جوزيف كامبل عن "المونوميث" أو "رحلة البطل"، الذي أوجزه في كتابه "بطل بألف وجه"، كيف أن الأساطير من مختلف الثقافات تشترك في أنماط سردية مشتركة. وتشير هذه الفكرة إلى أن السرديات الثقافية، على الرغم من تنوعها، تساهم في وضع أطر سردية كلية.

السياقات الاجتماعية والسياسية

يعمل الأدب في كثير من الأحيان كاستجابة للبنى الاجتماعية والواقع السياسي. ويستخدم المؤلفون أعمالهم للتعبير عن المعايير الاجتماعية وديناميات السلطة ونقدها وأحياناً تحديها. ووفقًا لتيري إيغلتون، فإن الأدب لا يُبدع بمعزل عن الواقع الاجتماعي؛ فهو نتاج الظروف المادية والصراعات الطبقية، وغالبًا ما يكشف عن التوترات الأيديولوجية داخل المجتمع.

وهناك مثال واضح على الأدب الذي يستجيب للسياقات السياسية هو رواية 1984 لجورج أورويل. كُتبت الرواية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وأثناء صعود الأنظمة الشمولية، وتستكشف الرواية مواضيع المراقبة وسيطرة الدولة والدعاية السياسية. ويُعدّ عمل أورويل بمثابة تحذير من مخاطر السلطة السياسية المنفلتة ويجسد نقدًا للشمولية. وبهذه الطريقة، لا يعكس الأدب القوى السياسية القمعية فحسب، بل يقاومها أيضًا.

ويتناول الأدب كذلك قضايا العدالة الاجتماعية وعدم المساواة، ويعطي صوتًا للمجتمعات المهمشة. تحدّى كتّاب ما بعد الاستعمار مثل تشينوا أشيبي ونغونغ وا ثيونغو الروايات الأوروبية المركزية واستعادوا وجهات نظر السكان الأصليين في أعمال مثل "أشياء تتداعى" و"إنهاء استعمار العقل". وفقًا لإدوارد سعيد، يقدم أدب ما بعد الاستعمار سردية مضادة للخطابات السياسية والثقافية السائدة التي فرضتها القوى الاستعمارية.

توضح الانتقادات الجندرية والنسوية أيضًا كيف يتفاعل الأدب مع السياقات الاجتماعية. يسلط كتاب سيمون دي بوفوار "الجنس الثاني" وكتاب فيرجينيا وولف "غرفة خاصة" الضوء على الطرق التي استُبعدت بها المرأة تاريخيًا من المساحات الفكرية والأدبية. وتدعو هذه الأعمال إلى المساواة بين الجنسين وتتحدى البنى الأبوية، جاعلةً من الأدب منبرًا للتحول الاجتماعي.

التجارب الشخصية للمؤلفين

غالبًا ما تشكل التجربة الشخصية موضوعات الأعمال الأدبية وشخصياتها وسردياتها. و يعتمد الكتاب والشعراء على حياتهم وعواطفهم وذكرياتهم لخلق سرديات تلقى صدى عند القارئ. ووفقًا لسيغموند فرويد، يمكن اعتبار العمل الإبداعي للمؤلف امتدادًا لأفكاره الداخلية ورغباته اللاواعية التي تعكس صراعاته وتجاربه الشخصية.

تتأثر العديد من الروائع الأدبية بحياة المؤلف نفسه. على سبيل المثال، تُعدّ رواية "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست استكشافاً كبيرا للذاكرة والهوية، مستوحى من تأملاته وتجاربه الاجتماعية في فرنسا. وعبر هذا العمل شبه السيرة الذاتية، يوضح بروست كيف يمكن للذاكرة الشخصية أن تكون مصدرًا للتعبير الفني والبصيرة الفلسفية.

وتقدم سيلفيا بلاث في رواية "جرة الجرس"، التي ترجمت الى العربية بعنوان(الناقوس الزجاجي)، تصويرًا صريحًا للمرض العقلي، مستمدة مباشرة من صراعاتها مع الاكتئاب. ان استخدام بلاث للغة الاعترافات الحية والحيوية يسلط الضوء على الدور العلاجي الذي يمكن أن يلعبه الأدب لكل من الكاتب والقارئ.   وأصبح ألم بلاث الشخصي سردًا عالميًا يتحدث عن التجارب المشتركة للنساء اللاتي يعانين من الضغوط المجتمعية والعزلة العاطفية.

وغالبًا ما يستخدم المؤلفون أيضًا الأدب كوسيلة لمعالجة أحداث الحياة الكبرى وتفسيرها. تأثرت أعمال إرنست همنغواي مثل "وداعاً للسلاح" بتجربته كسائق سيارة إسعاف خلال الحرب العالمية الأولى، اذ يعكس أسلوبه البسيط المميز واستكشافه لمواضيع مثل الحب والفقدان والقدرة على الصمود الندوب العاطفية للحرب. يرى همنغواي ان الكتابة شيء تعيشه وليس مجرد شيء تفعله.

التقليد الادبي والتناص

يعد التقليد الأدبي والتناص مصدرين أساسيين للمعرفة الأدبية، ويشكلان تطور النصوص و تأويلها. وعبر الانخراط مع الأعمال السابقة، يشارك المؤلفون في حوار أدبي مستمر يثري إبداعاتهم ويوسع فهم القارئ. قدمت جوليا كريستيفا مفهوم التناص، معتبرةً أن " كل نصّ هو عبارة عن فسيفساء من الاقتباسات، وكل نصّ هو تشرّب وتحويل لنصوص أخرى " وأنه لا يوجد عمل أدبي بمعزل عن غيره.

ومن أوضح الأمثلة على تأثير التقاليد الأدبية في تشكيل النصوص هو تأثير الأدب الكلاسيكي على الأعمال اللاحقة. فكتاب الكوميديا الإلهية لدانتي يعتمد بشكل كبير على كتاب فيرجل حتى أن فيرجل يظهر كدليل لدانتي في الجحيم. وعبر الإشارة إلى نصوص سابقة، يضع دانتي عمله ضمن تقليد أدبي كبير ويسمح للقراء بتفسيره في ضوء أسلافه الكلاسيكيين.

يستمر أدب ما بعد الحداثة في تبني التناص كاستراتيجية إبداعية مركزية. فكتّاب مثل خورخي لويس بورخيس وأومبرتو إيكو يبتكرون رواياتٍ تشير عمدًا إلى النصوص الموجودة وتفككها. على سبيل المثال، تتلاعب قصة بورخيس "مكتبة بابل" بفكرة المكتبة اللانهائية التي تحتوي على كل كتاب ممكن، متحدية المفاهيم التقليدية للأصالة والتأليف.

 الخيال الابداعي والابتكار

يُعتبر الخيال الإبداعي والابتكار من مصادر المعرفة الأدبية، اذ انهما يسمحان للمؤلفين بتجاوز حدود الواقع واستكشاف طرق جديدة للتفكير والتعبير عن أنفسهم. وعن طريق السرد القصصي الخيالي، يبتكر الكتّاب نصوصا تتحدى المعايير التقليدية وتحفز الفضول وتقدم وجهات نظر جديدة حول التجربة الإنسانية. وكما يقول ألبرت أينشتاين في مقولته الشهيرة: "الخيال أهم من المعرفة"، تعكس هذه المقولة فكرة أن الخيال هو القوة الدافعة وراء الابتكار والاكتشاف، بينما المعرفة محدودة بما نعرفه بالفعل.

وأحد أبرز الأمثلة على الأدب الخيالي في أعمال الخيال العلمي والفانتازيا. ويستخدم مؤلفون مثل إسحاق أسيموف وأورسولا ك. لو غوين عوالم خيالية لاستكشاف القضايا الفلسفية والاجتماعية والأخلاقية. في رواية "اليد اليسرى للظلام"، تتخيل لو غوين مجتمعًا بدون أدوار ثابتة للجنسين، وتقدم رؤى في بناء الهوية والمعايير الاجتماعية. تتحدى مثل هذه الأعمال القراء للتساؤل وإعادة التفكير في فهمهم للعالم وذلك عن طريق الابتكار الإبداعي. ولا يقتصر الأدب التخييلي على الأنواع الفنتازية، بل يمكنه أيضًا إعادة تشكيل الواقع اليومي. تمزج الواقعية السحرية، كما في رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، بين ما هو دنيوي وما هو سحري، متحديةً بذلك الحدود بين الواقع والخيال.  تتيح هذه التقنية السردية للمؤلفين تقديم نسخ بديلة للحقيقة، ومن ثم توسيع إدراك القارئ للواقع.

كما ان الابتكار في الشكل والبنية هو مظهر آخر من مظاهر الخيال الإبداعي. فقد أحدث كتّاب الحداثة مثل فيرجينيا وولف وجيمس جويس ثورة في تقنيات السرد وذلك بالتخلي عن السرد القصصي الخطي لصالح سرد تيار الوعي. تجسد رواية "السيدة دالواي" لفرجينيا وولف، مثلا، تعقيدات الوعي الإنساني عبر بنية سردية مجزأة، ما يعكس الروح الابتكارية للأدب في أوائل القرن العشرين.

تأويل القراء

يجلب القراء المختلفون خلفياتهم وعواطفهم ووجهات نظرهم الخاصة إلى النص، وهو ما يؤدي إلى تفسيرات مختلفة. على سبيل المثال، قد يرى قارئ سياسي رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل في المقام الأول على أنها نقد للشمولية، بينما قد يركز قارئ آخر على تعليقه على الطبيعة البشرية والفساد. يسهم كل تفسير في فهم النص بشكل أكثر ثراءً ويسلط الضوء على تعدد المعاني التي يمكن أن ينقلها الأدب.

وتعزز الطبيعة الذاتية للقراءة أيضًا المعرفة وذلك بتشجيع القراء على التساؤل والتفاعل النقدي مع النصوص. ويرى ستانلي فيش، وهو أحد أبرز مؤيدي المجتمعات التأويلية، بأن تأويلات القراء تشكلها السياقات الاجتماعية والثقافية التي ينتمون إليها. وبالتالي، فإن المعنى ليس ثابتًا بل يتم التفاوض عليه داخل مجتمعات القراء الذين يتشاركون استراتيجيات تأويلية متشابهة.

علاوة على ذلك، غالبًا ما تكتسب الأعمال الأدبية معاني جديدة بمرور الزمن مع تغير القيم الاجتماعية والسياقات الثقافية. على سبيل المثال، فسرت مسرحيات شكسبير بشكل مختلف على مر القرون، وهو الامر الذي يعكس المواقف المتغيرة تجاه قضايا مثل النوع الاجتماعي والسلطة والأخلاق. وتكشف القراءات النسوية الحديثة لمسرحية "هاملت" أو "ترويض النمرة" عن رؤى ربما أغفلتها التفسيرات السابقة، ما يوضح كيف تتطور المعرفة الأدبية عبر تفاعل القارئ المستمر.

خاتمة

إن مصادر المعرفة الأدبية متنوعة ومترابطة، وتشمل الأحداث التاريخية، والسياقات الاجتماعية والسياسية، والتجارب الشخصية، والتقاليد الأدبية، والإبداع الخيالي، وتأويلات القراء. ويسهم كل مصدر في ثراء الأدب وتعقيده، ما يتيح له أن يعكس العالم وينقده ويعيد تصوره. وعن طريق التفاعل مع هذه المصادر، يصبح الأدب أرشيفًا حيًا للمعرفة والتجربة الإنسانية. وقدرته على التطور عبر الابتكار وتفسير القراء يضمن أهميته عبر الزمن والثقافات.


مشاهدات 254
الكاتب عادل الثامري
أضيف 2025/04/07 - 1:15 AM
آخر تحديث 2025/04/07 - 8:05 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 839 الشهر 5823 الكلي 10586470
الوقت الآن
الإثنين 2025/4/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير