لم يكن امام ادوارد سعيد، المفكر والاكاديمي والمنفي ايضا، إلا ان يغازل عبثية المقام الابهى ، وهو الوطن ، او اليوتوبيا ، في ان يكون المكان فكرة متجلية ، ومن ثم ايديولوجيا، حيث تنبه قليلون إلى خطر تاثير المكان على النمط التفسيري لبني الإنسان ، من ان المحاكمة العادلة تتطلب جرحا بليغا، وحقيقيا واكتراث ، بما يعلق في الذاكرة الإنسانية كما النسغ، مع مزيد من الاسى والانفصال عن المركز ، وهكذا تطورت فكرة المكان جدليا ليكون قول الشاعر
الجواهري
”وردنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماء وزرنا أشرفَ الشجر النخيلا
” أبغدادُ اذكري كم من دموع أزارتكِ الصبابةَ والغليلا
في حين يبادر آخر إلى جعل المكان هو جنة الاخر ، على النقيض من المتن الفرنسي لجان بول سارتر في تشاؤمه المؤلم :
الآخرون هم الجحيم
وقتل شاعرنا متغزلا بصبابة المكان على انه الآخرون:
رعى الله اياما تقضت بقربكم
كاني بها قد كنت في جنة الخلد
وهكذا يحتج ديك الجن والمعتزلي البغدادي ، الذي اكتشف فجأة ان الإنسان إذا غادر وطنه يكون قد غادر عمره كله ، دون عودة، حيث ينسى من قبل الاجيال المتعاقبة والاهل والأصحاب والأحداث ، ككنيسة مهجورة ، او حبة في الرمل ، كما قال درويش ،
المنفى الذي لم نختره ولم نفكر به ، اصبح الان وطنا لنا ، وما ان نغادر بلادنا الاولى ، التي نفينا منها ، حتى نكتشف ان طريق العودة محفوف باللا هوية وباللا سعادة ، حيث اللغة المغامرة والذاكرة الراسخة والرموز التي تتقلب معنا، مثلما يعانق شبح صورة محتواه
وهكذا لا يدري الشريف الرضي باي الحواس
يرد على خواء الذاكرة بقوله
وتلفَّتت عيني فمذ خَفِيَت
عني الطلول تلفت القلبُ
وقيل ان الرؤية هي غير النظر وان النظر هو غير البصر ، فعندما يقال نظر فلان ان انه حرك جهازه البصري إلى هدف النظر ، غير ان البصر او ادراك الشي ، ومنها ادراك الذاكرة للمكان ، التي فشل الشاعر الشريف الرضي ان يبصرها بعينيه ، فما كان منه إلا ان بصرها بقلبه فتلفت القلب والذي ظن العرب لاجيال انه الجهاز الدموي ، حتى غشي ذاكرة المكان قلب الحدث ، فعد القلب اول نتيجة عقلية تدرك الأشياء ولا تدركها الاشياء ، ولعل الهروب من الوطن يحسد محنة سعدي يوسف في قوله
يوم انتهينا إلى السجن الذي ما انتهى
وهو يئن الما في البحث عن بن بركة وعن جيل اثر جيل من المغيبين والمنفيين والمبعدين ، ومن ثم ان يصار إلى ملاحقة المنفيين على انهم خونة واعداء لذاكرة المكان الاول ، لكي يتم نفيهم ثانية في منفاهم الاول ، وتتعدد المنافي وتتعد اسماء المنفيين، ويبرز بين الفينة والأخرى ما نسميه صراخ الداخل وعبثية المنادي وهي المنخوليا، او السوداوية التي تطغى على الحنين إلى لا احد
نعم انه الحنين فثمة غبار كوني يغطي كوكب الارض بغيم ابيض سرعان ما يتحول إلى ذاكرة مكانية متطايرة ، واذا اعتصر الغيم تحول الحلم إلى وابل مكافئ للبكاء ، هكذا ظن تولستوي في منفاه الابدي ، وهو يكتب الحرب والسلام ، باحثا عن الخيوط الاولى للنهج الإنساني ، وكيفية التحول من إنسان بذاكرة وحلم ولذة وضمير ، إلى قاتل وطاغية ومتجرد من الضمير والرأفة الإنسانية ، المكان الذي نسير عليه هو غير المكان الذي نشيده ، وهما ابعد وعيا عن المنفى الابدي الذي عدنا اليه بلا هوية لكي نبقى هنا في صلابة الارض وهشاشة أحلامنا
لم يعد لنا سوى ان نحلم وان نكون بلا هوية ثقيلة الوطأة وباهضة التكاليف ، الهوية الوطنية بذخ وخروج عن المألوف ، وليس لنا نحن العبيد إلا أن نخبئ رؤوسنا في تراب المنفى وان ننشد خلسة : يا دار دوري فينا ، او ان نتجرع مرارات الجواهري وهو يذوي جوا:
حييت سفحك عن بعد فحييني