فاتح عبد السلام
عاد أحد أصدقائي العرب من زيارة الى العراق مؤخراً، ذهب خلالها الى جامعته التي تخرج فيها، وزار عدة مدن علقت بوجدانه منذ عقد الثمانينات من القرن الماضي، وحين التقيته وطلبت منه ان نذهب الى اقرب مقهى ليحدثني عن هذه الرحلة التاريخية كما سمّاها، رأيت على وجهه علامات عدم الارتياح بعد لحظات من انشراح ملامحه وهو يستعيد كيف كان شعوره ساعة نزلت الطائرة به في مطار بغداد الدولي . ثمّ قال: هناك مبان وشوارع اختفت في مناطق أحبها ببغداد وأخرى ظهرت مكانها. لكن البلد لم يتجدد كما تنهض عادة المدن خلال ربع قرن بما يوحي انها تطورت وواكبت العصر، لقد كنت اشعر ببغداد حين داومت طالبا في جامعتها انها عاصمة عملاقة.
قلت له: العراق خاض حروباً لم تتح له التطور. قال بحدة: لا، ليس هذا السبب، اخر حرب كانت قبل اكثر من عشرين سنة، ماذا صنعتم بعدها وقد جرت مليارات النفط في ايديكم؟ هل تعلم يا أخي انّ الوفرة المالية التي اتيحت لبعض دول الخليج لكي تحقق بها نهضتها لم تكن اكثر مما دخل الى موازنات العراق؟ ماذا فعلتم بعشرات المليارات من الدولارات؟ حتى عملية سرقتها وتبديدها مهمة عسيرة لا يمكن ان تتم بهذه السرعة المذهلة.
قلت له: اشرب شايك وحدثني عن الأشياء الجميلة التي رأيتها.
قال:ذكرتني ، يا سلام،، الشاي والطعام فقط هي رائحة العراق التي لم تغيرها الحروب والاحداث.
قلت له: طبعا لأنها من صنع العراقيين، وليس الحكومات والوزراء والنواب ومجالس المحافظات، ولو كانت بأيديهم وبتدخل منهم لكنا استوردنا الدولمة والبرياني والدهينة والكبة والطرشي والقلية والقيمة والباجة والكباب والسمك المسكوف.
قال: انت تقول انها الحرب دمرت كل شيء. انتم كان لديكم عشرون عاما، هل تعلم انّ برج خليفة في دبي استغرق بناؤه ستة أعوام، وانّ محطة الفضاء الدولية بنيت في ثلاثة عشر عاما، وانّ متوسط مدة بناء المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في اعلى المواصفات هو تسعة أعوام. وهل تعلم انّ..
هنا قاطعته قائلاً: اشرب قدح الشاي ودعنا من هذه المغثة؟
قال: دعني أبيّن لك فقط حجم الفارق الحضاري بالتناسب مع الثروة وبالقياس الى ..
قاطعته مرة أخرى بقوة قائلاً له وقد نفد صبري معه:
عزيزي انت تتكلم معي بلغة فيها حساب وكتاب وعتب وزعل، انا لست رئيس حكومة ولست رئيس برلمان او نائب ولست وزيراً او محافظاً أو مدير عام ولست حتى موظفاً أو متقاعداً.. هل تعلم ذلك أم لا؟
فقال وهو يهم للمرة الأولى ماداً يده الى قدح الشاي: اذن مَن انت؟
اجبته وقد سبقته الى رشفة من قدح الشاي: أنا مجرد عراقي.
ضحك كمَن سمع نكتة مسيلة للدموع، وكأنّه كان مشتاقاً لهذه الضحكة منذ سنين: يا أخي لماذا لم تخبرني بذلك منذ البداية وتوفر عليّ حرق الاعصاب؟
رئيس التحرير-الطبعة الدولية