الملا عثمان الموصلي في ذكراه المئوية : تلاوة خاشعة ودعاء ندي ونغم شجي ولحن بهي وفؤاد عبقري بصير موصلي يبهر الشرق بالحانه وانغامه ويطربه بأغانيه وموشحاته ويدهشه بذكائه وفطنته …فقد البصر وامتلك البصيرة ومن ظلام العمى انبثق نور الابداع ومن سواد الرؤية انطلق بياض الرؤيا والحلم ومن نقاء الاحساس ولد شعاع النغم الاصيل واللحن الجميل الطَرِبِ .
هوعثمان بن الحاج عبد الله بن عمر المشهور بالملا عثمان الموصلي ولد في الموصل سنة 1854م و توفي في بغداد سنة 1923م . كان والده سقاء يجلب الماء العذب من نهر دجلة. وكأن بؤس الفقر المدقع لا يكفي فعندما كان عثمان في السابعة من عمره أصيب والده بمرض لم يمهله سوى بضعة أيام حتى توفي تاركا أولاده برعاية أمهم المعدمة التي عملت خادمة لدى محمود أفندي العمري سليل عائلة العمري اعرق عوائل العراق وشقيق عبد الباقي العمري الشاعر العربي الشهير في القرن التاسع عشر.
لم يعان الموصلي من سوء التكيف الاجتماعي على عادة فاقدي البصر انما انغمس في علاقات اجتماعية ممتدة في النسيج الاجتماعي بين فئات متنوعة من الناس .وان المكابدة النفسية لدى الموصلي من كف البصرلم تجعله يقع في قبضة سواد الرؤيا للعالم من حوله و لم تعقه عن ادراك ضياء الحياة ونورها المشرق في دوام العيش الهانئ الآمن ليجعل اللحن الجميل والنغم اللطيف مُعَبرَيْنِ سمعيين جماليين عن ذاته المتمسكة بالحياة وعن فنه المعلن عن طاقة احساسه بالجمال والفن والادب . ولم تكن مسموعات الموصلي للا شياء من حوله عابرة دون ايقاض او استفزاز لطاقة الجمال لديه ،ان ادراك الموصلي للجمال انما هو ادراك سمعي بصيري وجداني ذوقي عرفاني .
ولم تستحوذ آثار الجدري بوصفها عاهة في الشكل الظاهر للموصلي ولا فقدان البصرعلى نفس الملا عثمان وتجعلها مضطربة قلقة او ربما عدوانية فقد استوعبها باستقرار نفسي ونبوغ ابداعي وتجاوزها بانتاجه الموسيقي والغنائي وتفاعله الصوفي مع ما قدر له في تلك العاهة ، فقد كان عذب الكلام والمعشر، مرهف الاحساس، حاضر البديهة قليل النسيان ذا ذاكرة متوقدة لطيفا مرحا ساخرا .
ولم يكن ذا طبيعة بائسة كما ذهب الى ذلك أحد الباحثين بل ربما جعل الموصلي نغماته الجميلة والحانه الطربة احتجاجا أو رفضا عمليا لقبح نتوأت الجدري الطافحة على وجهه حين سرقت منه بصره وصفاء وجهه ونقاء نفسه . ان حرمان الرؤية وانطفاء العين عند الموصلي حفَز اتساع السمع وتنشيط الأذن بما يمكن قوله تعويض العين بالاذن والبصر بالسمع .
ومن الحقائق المعروفة أن النقص الذي يلحق الإنسان في بعض حواسة وفقدانه لوظائفها المدركة للاشياء من حوله يدفعه الى البحث عن وسيلة تخفف الشعوربالنقص فيلجأ ذهنيا وعقليا الى ضبط مسار الشعور بالنقص ودرجة حديته بل وتوجيهه لهذا الشعور نحو معان الراحة والامن والاستقرار في العيش والسيطرة عليه لئلا يؤدي تنامي الشعور بالنقص الى اضطراب نفسي يقهر الانسان ويضيق عليه فسحة الحياة وطيب العيش .لقد نجح الموصلي في التغلب على هذا الشعور بل استبدله بشعور التفوق والنجاح وأسلوب تفكير قاهر لمعاني الفشل او العجز حين ابدع صورا سمعية في اطار النغم واللحن ربما تعجز عن انتاجها العين الباصرة بصور ابداعية عن الانسان والحياة . فالصور البصرية في مخيلة الموصلي تدخل متشابكة في صمم النسيج السمعي الكلي لأسلوبه المبدع نغما ولحنا وانشادا وتواجدا صوفيا روحيا . كانت بغداد نقطة تحول بارزة في مسيرة الملا عثمان الموصلي ، ففيها تتلمذ على يد رحمة الله شلتاغ، سيد المقام العراقي آنذاك ، وفيها خاض أول تجربة سياسية له فقد انتقد الدولة العثمانية في خطبة له أدت إلى نفيه إلى سيواس في تركيا عام 1886 لفترة قصيرة ليعود بعدها إلى الموصل وفيها تابع دراسة قراءة القرآن الكريم وانضم إلى الطريقة القادرية الصوفية، التي تخرج على يدها الكثير من القراء المعروفين في الموصل وانضم بعد ذلك إلى الطرق الصوفية الرفاعية والمولوية .
انتقل الملا عثمان الموصلي إلى اسطنبول وبرز فيها بسرعة ليصبح اشهر قارئ للقرآن وملحن ومغن فيها وانتشر اسمه في كل مكان حتى سمع عنه السلطان عبد الحميد فجلبه إلى قصره ليسمع نلاونه وانشاده. وقد برع عثمان في أدائه وكرر الزيارة عدة مرات بل انه قام بالغناء أمام حريم القصر وتطور الأمر ليقوم عثمان بمهام رسمية للسلطان عبد الحميد. وكانت اسطنبول عاصمة الإمبراطورية العثمانية ومركز ثقافتها ومن يبرز فيها يعرف اسمه في جميع أنحاء الإمبراطورية وقد ساعد هذا الملاعثمان وجعله مرحبا به أينما ذهب ومكنه من تأسيس علاقات وطيدة مع مشاهير عصره.
وكان الملا عثمان من أبرزعمداء التلحين والقراءات السبع والإنشاد في عصره ، وكان شاعراً بليغاً يجيد اللغتين الفارسية والتركية. وله مؤلفات عدة في الأدب، والشعر، والتصوف، ونظم الموشحات، وتشطير القصائد وتخميسها، وهو من القراء المعدودين في تلاوة القرآن. وله مذهب اختص به، في إنشاد قصائد المديح، وطرائق المولد النبوي والأذكار، وكان رخيم الصوت ضارباً بالقانون والعود، عالماً بالنغم وضروب الإيقاع، متفنناً في تلحين الموشحات. تنقل الملا عثمان بين العديد من المدن مثل بغداد وحلب ودمشق وإسطنبول والقاهرة.
وكلما دخل الملا عثمان بلدا غنى وتعلم وعلم واعتبر الأبرز في الغناء والتجويد فيه، ففي مصر ادخل نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما وقام بإدخال المقام العراقي مثل المقام المنصوري والموصلي في الغناء التركي ولا يزال هذا الطراز يسمى في تركيا بطراز الحافط عثمان الموصلي.
وقد أخذ عنه مشاهير أعلام صناع الموسيقي والانشاد والطرب العربي منهم عبده الحامولى ومحمد كامل الخلعي وعلى محمود وسيد درويش وعمر البطش وأبو خليل القباني وغيرهم أخذوا عنه الموشحات الشامية والتركية ومن خلاله دخلت مقامات لم تكن معروفة في مصر (كالنهاوند والحجاز كار) كما كان دائرة المعارف في الشعر والمقامات الموسيقية والضرب على العود والعزف على القانون وله العديد من القصائد والموشحات والالحان، وقد كرم من قبل الدولة العثمانية أكثر من مرة كونه قدم المئات من الألحان الدينية. يشبه صوته صوت الشيخ محمد رفعت و الشيخ محمود صبح . أصدر في مصر مجلة المعارف عام (1897م) وترأس تحريرها
وأما اشهرمن تأثربالملا عثمان وأجاد الأخذ عنه وأتقن ذلك ببراعة هو الموسيقار المصري سيد درويش الذي التقاه في دمشق ودرس على يده لمدة ثلاث سنوات وقام باقتباس موشحات دينية وأغان كثيرة من الملا عثمان الذي كان له الفضل الأكبر في نمو مواهب سيد درويش ووصوله إلى تلك المرتبة المتقدمة. واشهر ما اقتبسه سيد درويش كان أغنية ‘زوروني بالسنة مرة’ التي كانت موشحا دينيا بعنوان ‘زر قبر الحبيب مرة’ وأغنية ‘طلعت يا محلى نورها’ التي كانت موشحات بعنوان ‘بهوى المختار المهدي’.
. أورد سيرة الملا عثمان الموصلي وترحاله واسهامته العديد من الباحثين المهتمين بالتراث الموسيقي وأبرزهم كان الدكتورعادل البكري الذي اعتنى بسيرته وخصهُ بكتابين “عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف”. والكتاب الثاني “عثمان الموصلي قصة حياته وعبقريته”. وخصهُ أيضاً القاضي والمؤرخ العراقي محمود العبطة بكتاب”عثمان الموصلي في بغداد”.
أشهر أعماله في الموسيقى : زوروني كل سنه مرة (زُر قبر الحبيب مرة). فوق النا خل فوق (فوق العرش فوق). طلعت يا محلى نورها (بهوى المختار المهدي).ربيتك زغيرون حسن (يا صفوه الرحمن سكن فيكم غرامي) طالما أشكو غرامي (لغه العرب اذكرينا /يا عذولي لا تلمني).طالعة من بيت ابوها.قدك المياس / بالتركية . هيمتني . يا غزالاً كيف عني أبعدوك. يمُّ العيون السود.آه يا حلو يا مسليني.أحمد أتانا (أشقر بشامة). وله الكثير من القصائد الصوفية، ما جعله ينال شهرة واسعة في ما بعد في إسطنبول بعد عودته إليها. وهكذا صار الموصلي، الذي كان عذب الصوت وعازفاً بارعاً للعود والطبلة والقانون والناي، من مشاهير قرّاء القرآن والمَقام في الوقت نفسه؛ ولحّن الكثير من الموشّحات والأغاني البارزة والمتداوَلة إلى اليوم؛ مثل: “ويا من لعبت بهِ شمولٌ”، و”لغة العرب اذكرينا”، و”فوك النخل فوك”، و”ربيتك زغيرون حسن”، ويا ام العيون السود. وإلى جانب ذلك، نشر الموصلي عدّة مؤلّفات؛ من بينها: “تخميس لامية البوصيري” (1895م)، و”الأبكار الحِسان في مدح سيد الأكوان” (1895م)، و”المراثي الموصلية في العلماء المصرية” (1897م)، و”مجموعة سعادة الدّارين” (1898م)، و”الأجوبة العراقية لأبي الثناء الآلوسي” (1890م) .
عرف عن عثمان قابليته على التعرف على الرجال من لمس أياديهم وله في هذا أمثلة كثيرة كما عرف عنه تمييزه للنساء من مشيتهن ومن طرائفه انه كان يعظ في مسجد في اسطنبول عام 1905 وعندما أطال وأسهب نبهه بعض معارفه من وجهاء العراق بوجودهم فقال منغما في أثناء ترتيله ‘يا فؤاد، يا موسى، يا وفيق، إنني انتهي قريباً، فانتظروني’. واعتقد الأتراك الموجودون في المسجد أن ذلك من جملة التراتيل فأخذوا يردون على أقواله: آمين، أمين. وفي إحدى الليالي كان يسير برفقة حفيده ممسكا بيده وراجعا إلى الدار واجتازا الزقاق المعروف بعقد النصارى. وبينما هما في طريقهما صار الشيخ عثمان يصغي بسمعه إلى جهة ما ثم توقف تحت نافذة ينبعث منها ضوء خافت. فقال له حفيده ما بك يا جدي؟ اسمع!..ألا تسمع صوت عزف عود؟ نعم وماذا؟ إن هذا العازف قتلني! دلني على الباب. فتقدم حفيده به خطوات نحو باب قريب منهما. فجاء الشيخ وقرعه بعصاه الغليظة وصاح: يا عازف العود. وتر النوى نازل، شده قليلا.
وندرك مما تقدم ان الموصلي تميز بذهنية عبقرية استطاع أن يوجد لذاته صلة عميقة بينه وبين الواقع الذي يعيش فيه والابداع الذي ينتمي اليه .ولم يعش الموصلي تيهاً في عتمة ذاته أو اغتراباً تجلى في ابداعه و شعوره وذلك ثمرة وعيه بالجمال وقيمته العليا في الحياة وادراكه لدور الفن في التعبير الجمالي الراقي عن الانسان والحياة والطبيعة….