كتاب صدر حديثاً

فتح اللـه يفكّك طلاسم الفوتوغرافي الدرويش

رياض عبد الكريم

 

بعد سلسلة من كتبه المتميزة التي تناولت بالتحليل والكشف الفني في الصورة الفوتوغرافية لاشهر المبدعين في فن التصوير من العراقيين ، يتحفنا الفنان المبدع والباحث في الشأن الفوتغرافي هيثم فتح الله بكتابه الجديد الذي تناول فيه اعمال وتجربة احد اهم مبدعي الموصل في التصوير الفوتوغرافي انور الدرويش (مواليد 1964)، والذي وصفه بالعين الحاذقة والفكر المتقد ، مستعرضا سيرته الفنية عبر مايقارب النصف قرن معززة بأكثر من (150) صورة فوتوغرافية البعض منها بالاسود والابيض والاخرى بألوانها الطبيعية، والتي شكلت بمجملها تجربة غنية وثرة للفنان الدرويش دفعت فتح الله للتأثر بهذه التجربة والتفاعل معها من منظور فني مدروس بعمق لما تضمنته تجربة الدرويش من فلسفة في اظهار تفاصيل الحياة الانسانية المتنوعة والتي تعبر عن مكنونات الانسان في لحظات الفرح ، الحزن ، المعاناة ، كاشفا وموثقا حياة المجتمع المهني والمكاني والزماني ، وكأنه يسرد قصصا وحكايات عن واقع مدينته المدمرة ليجعل الصورة شاهدا على تأريخ هذه المدينة العريقة التي ستتذكرها حتما الاجيال القادمة ، لكنه ايضا تعدى اطر التوثيق الحياتي لينتقل عبر تجربته ومن خلال اهتمامه بالفن التشكيلي الى فضاءات لوحة التصوير التشكيلي ان صح التعبير ، ليبدع في اختيار لقطات اعتمدت التكوينات الطبيعية واللونية الثابته والمتحركة مستغلا خياله وتصوراته ليجعل عدسته كفرشاة للرسم منتجا لوحة تشيكيلية بصورة فوتوغرافية مكتملة المعنى واللون والتكميل .

اسئلة اختزالية

لماذا نصور؟

هل نصور من اجل ايقاف الزمن ؟

هل نصور من اجل تةثسق الحدث ؟

هل نصور من اجل جمال المنظور بالصورة ؟

هل نصور من اجل اشضباع رغبة الهواية ؟

اسئلة يطرحها هيثم عل نفسه من مقدمة كتابه ويجيب :

  هذه الاسئلة تتبادر الى ذهني ، كلما وجدت صورة معبرة ، او صورة جميلة ، او اخرى ذات بعد فكري واجتماعي ، او سياسي وتأريخي .

«عندما تظهر الصورة الى العلن ، من قبل الجميع ، تصبح رسالة ، كما هي وسيلة تبادا ثقافي بصري ، بين فكرالمصور وابداعه الفني والمتلقي الباحث عن اثراء ثقافته البصرية وادامتها ، من هنا تأتي اهمية الموضوع الذي يؤطر كادر الصورة ، ولاسيما عندما يظهر اللون بقوته ، والتباين بحدته ، لتظهر الصورة كمشهد مغاير للواقع ، ومن ثن ينجذب نظر المتلقي الى الع8الم الداخلي للصورة ، باحثا عن الاسرار الكامنة وراء التباين اللوني والفني ، عندها تقود الصورةالمشاهد الى خيال فكري عميق وومتع ، حيث اللحظة الزمنية ترتفع الى مستوى ميتافيزيقي من الرؤى ومعاني الحياة والتجربة المتعاليتين .»

ويضيف فتح الله واصفا تجربة الدرويش :

« اقول هذاوانا افكربما يقدمه الفنان انور الدرويش من رؤية فوتوغرافية تتضافر فيها المواضيع الانسانية والحياتية العملية بتقنية فنية عالية ، سواء باستخدام خفايا الكاميرا ، او التلاعب بالظل والضوء ، او النوروالعتمية ، لتمنحنا رؤية فيها من الحس الفني ، والابداع اللوني ، ما يستدعينا القيام بتحليل عميق لكل زاوية من زوايا منظوره الفوتوغرافي .»

وفي قراءته الفوتوغرافية التحليلية يقسم فتح الله الكتاب الى اربعة اقسام هي التصوير بالاسود والابيض ، التصوير باعتماد العتمة والنور ، التصوير الملون والرؤية اللونية ، فنتازيا الفوتغراف ، ومن خلال هذه الرؤية فأن التحليل الفني لفلسفة الدرويش في التصوير اعتمد على تناول الكاتب مختارات من كل مجموعة شارحا ومحللا كل التفاصيل المتعلقة بجمالية وفكر الصورة وزاوية التقاطها وتناغمها مع الزمان والمكان مشيرا الى المهنى الذي يكمن في عمق الصورة ومدى اهميتها وتفاعلها مع المشاهد .

التصوير بالاسود والابيض

في المجموعة الاولى تبرز بوضوح عبقرية الدرويش في التقاط موضوع الصورة بالاسود والابيض فكما هو معروف ان تصوير الاسود والابيض هو اسهل من الناحية التقنية ، لكنه اصعب بكثير من الناحية الفنية ، لانها تتحدد في اللحظة المناسبة لالتقاط الصورة ودقة الزاوية التي تحصر الموضوع في الكادر بما يجعل المشاهد مواجها لمعنى وقيمة الموضوع دون اية زوائد تشتت انتباهه ، ومما يزيد اهميتها وبراعتها هو الاستخدام الامثل والذكي لمساحة الضوء والظل وانعكاساتهما على موضوع الصورة .

وفي هذا الصدد يحلل فتح الله هذه الفلسفة في اعمال الدرويش من خلال عرض بعض الصور معلقا :

« في اعمال انور الدرويش بالاسود والابيض ، نلاحظ دائما انبثاق فسحة امل رمزية ولو بسيطة ، متمثلة بحزمة ضوء منبثقة من خلال الظلال العميقة للمشهد ، فهي تظهر مفردات الموضوع المكون للصورة بطريقة تدعونا للتقرب اكثر من الصورة والتمعن في موضوعها الاساسي ، وهنا تظهر امكانية الدرويش في التسجيل الواقعي للاشياء بعيدا عن مسمياتها المعروفة ، اذ هي تجسد افكاراً ، حياةً ، تراثاً ،في نطاق كادر يعمق الفكرة ويظهر التنافر بين الاسود والابيض وما بينهما من ظلال حتى على حساب التفاصيل الكثيرة الموجودة داخل اطار الصورة .

ويعتمد الدرويش اقحام الانسان في مواضيع صوره عندما تخلو من الحياة ، معتمدا اظهار الانسان بحلته الحياتية العفوية ، وغالبا ما يصورهم من الخلف ، يسيرون الى امام وينظرون الى مستقبل متمثل بفتحات ضوء موجودة في كادر الصورة ، وحتى يكتمل مشهد اللقطة يتعمد الدرويش التصوير عن ميلان الشمس الى الغروب او عن الشروق ، لاظهار الظل المتأتي من مصدر الضوء القادم من امام الكاميرا .»

ويعرض فتح الله عشرات الصور بالاسود والابيض مختلفة المواضيع والزوايا تأكيدا لتحليلاته تاركا لنا فرصة التأمل والاستأناس بجمالياتها مسهلا علينا فهم طلاسم هذه الصور والتعمق في افكار الدرويش بعد ان تعرفنا على اسلوبه من خلال رؤية فتح الله التحليلية ،

العتمة والنور

«الضوء شعاع رباني له صفة فنية تثير يهجة الاشياء الحياتية ، وه جزء من السردية الفوتوغرافية ، لانه يظهر حدود الاشياء والزوايا الخفية ويجسدها ضمن مكونات الكادر الصوري ، اما العتمة فهي تضاد لوني للضوء ، لكنها تضع المكونات الحياتية الظاهرة في الصورة في موقعها ضمن معادلة التكوين البصري المتكامل» .

تلك هي الفلسفة الفكرية للفنان المبدع هيثم فتح الله ، فهو عندما يحلل او يطرح الافكار ، انما هو يعبر عن ذاتية صقلتها تجربة غنية وثرة في مجال التصوير الفوتوغرافي والتي امتدت لما يقارب النصف قرن وبالاخص انها امتزجت مع خبرة طباعية واسعة ومتنوعة ، فليس لنا الا ان نقتنع بتلك الافكار التي اضافت الكثير من المفاهيم لعالم التصويرالفوتوغرافي والطباعي سيما وانه قد اصدر حوالي اربعة او خمسة كتب في هذا المجال اضافة الى العديد من المعارض الفوتوغرافية ، ويضيف مسترسلا في تحليله لاعمال الدرويش قائلا :

«نجح الدرويش بتطبيق معادلة النور والعتمة بدقة عالية في بعض من صوره الملونة ، مختزلا بذلك الوان الطبيعة قدر الامكان ، لكي يجلب الانتباه الى اللون الاساسي الظاهر في الكادر الفوتوغرافي ، ويعطي اهمية للتركيز على بؤرة الصورة المتمثلة بالحدث الرئيسي الظاهر امامنا ، وفي لقطات اخرى تعمد الدرويش ان يختار زوايا لكبح جماح العتمة بشعاع نور جانبي كسر به عتمة الاشياء بتضاد لوني حاد لكنه هاديء ، ما اعطى للمشهد بعداً فنياً عميقاً من ناحية المنظور العام « .

الرؤية اللونية

الصور الملونة هي صور مبهجة ومفرحة ، لانها تمثل روح الحياة العامة ، وتظهر المكونات بشكلها الواقعي المعاش ، كذلك تقرب الوقائع الى نفوس المشاهدين ، ناهيك عن كونها تجعلنا نتلمس ونتفاعل مع ادق التفاصيل التي تظهر في كادر الصورة ، وكما يذكر فتح الله « فهي تظهر الوان الطبيعة الأخاذة بوجه خاص والتي تتغير درجاتها اللونية بتغير حركة الكرة الارضية خلال النهار ، فيبدو وكأن الشمس تدور حولنا وهي المصدر الرئيس للانارة المطلوبة لتوثيق جمال الاشياء ، ففي صور شروق الشمس تكون الصور ذات الوان باردة وهادئة ، عكس صور الغروب التي تمتاز بحرارة اللون وهيجانه».

صورة ملونة

ومن جملة تحليلات هيثم للتصوير الملون للدرويش اقتطف مايلي :

« في مجموعة صور انور الدرويش الملونة نستكشف قوة تباين اللون من خلال الظل الحاد والضوء الساطع ، ففي كثير من الاحيان يعطي الدرويش مساحة كبيرة للظلال ويكسر حدتها بلون واحد ، يظهر فيه صفاء ونقاء الطبيعة ، ما يجعل الصورة تبهر عين المتلقي بألوان مغايرة لما تراه في الواقع ، محققا بذلك مفهوم الدهشة والصدمة والانبهار في لقطاته» .

وفي قسمه الاخير من الكتاب يصف هيثم ويحلل معنى الصورة الفانتازية التي اتصفت بها الكثير من اعمال الدرويش قائلا:

«انها مجموعة من عناصر تتجمع ، عندما نتناول صور الحياة العامة بطريقة غير مألوفة ، وبرؤية تحول الواقع ، ونجمعها بأطار متماسك الشكل، يتضمن بعداً تشكيلياً فنياً مع لون وفكرة واحساس يحرك الخيال ويحيلنا ال الوجود ، فرؤية انور الفنية المتمثلة بتشكيلات فنية فوتوغرافية هي التي جعلت انظاره تتجه باحثة عن التشكيل الفني الواقعي الموجود في ثنايا مشاهد الطبيعة» .

 الكتاب اعبرته تحفة فنية من حيث الاخراج والطباعة والتجليد ، وقبل ذلك جودة وسلاسة النص السردي الذي برع فيه هيثم واجاد في تحليلاته الفنية والمتعمقة في جوهر واسرار عالم التصوير الفوتوغرافي والذي تفوق على غيره ممن كتبوا عن هذا العالم ، او يكاد ان يكون اول من استمزج بفكره النير وذائقته الراقية عملية الكتابة والتصميم والطباعة في مشروع ادبي وفني وتحليلي انتج هذا الكتاب الذي يقع بـ 248 صفحة من القطع الكبير والصادر عن مطابع الاديب في عمان ، والذي ضاهى او تفوق على مثيلاته من المطبوعات العالمية وما تصدره كبريات دور النشر في العالم.