جدلية الحياة والموت في قصيدة (طَور)
جدلية الحياة والموت في قصيدة (طَور)
ربيع ابراهيم محمود
المدخل:
هل يتطور الشعر في الشكل والمضمون مع تقدم البشرية، أم يبقى ثابتًا يحافظ على نمطه دون إنتاج ما هو جديد؟ ربما يمكن صياغة هذا التساؤل بطريقة أخرى: إلى أي مدى نحن قادرون على قبول التجديد والتكيف معه؟ هل يجب علينا أن نبقى متمسكين بالموروث ونفتخر بإحيائه فقط، خشية الخروج عن القوالب التقليدية لتعريف الشعر؟ خصوصًا في
وقتنا الحاضر، حيث أصبح التخصص الدقيق محور الاهتمام في معظم المجالات العلمية، وينطبق هذا الأمر بشكل كبير على الادب والشعر، فلم يعد الشعر مجرد كلمات موزونة ومقفية فحسب، بل أصبح مجالًا تتداخل فيه عناصر متعددة لإبداع نصوص متألقة تعكس روح العصر.
على سبيل المثال ان العقلانية والمنطق في الشعر العربي تجلى بشكل قوي في العصر العباسي متأثرًا بالثقافات اليونانية والهندية، حيث ظهر شعراء مثل بشار بن برد وأبي نواس يمزجون بين الفكر العميق والتعبير الشعري.
ومع تداخل المدارس الادبية الحديثة كالسريالية والسيميائية والبنوية والرمزية سيتخذ الشعر منحنى آخر أكثر عمقا و تشعبا، فمثلا السميائية لها ترابط وثيق بمفردات اللغة فهي علم العلامات، تهتم بدراسة العلامات والإشارات سواء كانت لغوية أم غير لغوية ،وبما أن النص يعتبر علامة، فإن السميائية تأتي لتتكفل بدراسة نظام علاماته، فتحاول أن تتعرف على كنهها وعلتها وكينونتها وعلاقتها بغيرها من العلامات، أما السريالية (ما فوق الواقعية) أو ما بعد الواقع هي مذهب أدبي فني فكري، أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية، فوق هذا الواقع أو بعده واقع آخر أقوى فاعلية وأعظم اتساعاً، وهو واقع اللاوعي أو اللاشعور، وهو واقع مكبوت في داخل النفس البشرية، ويجب تحرير هذا الواقع وإطلاق مكبوته وتسجيله في الأدب والفن، تميزت أعمالهم بصورات خيالية أو حالمة.
تحرروا الكتابة الشعرية من مقاييس اللغة، وهكذا ابتعدت القصائد السريالية عن قوالب وتقنيات القصيدة التقليدية القديمة بكل مقاييس اللاالتزام شكلاً ومضموناً ،وتحررت من مقاييس اللغة لتواكب الأحلام والتناقض اللامحدود في لغة القصيدة. في حين ان الرمزية بشتى صوره المجازية والبلاغية والإيحائية تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري، أساسه علاقة اندماجية بين مستوى الأشياء الحسية الرامزة، ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها، ومن ثم فهو يوحي ولا يصرح، يغمض ولا يوضح، كما أنه يقوم على مبدأ اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافا ذاتيا مبتكرا. وهو استخدام صورة حسية أو حدث معين للإيحاء بمعنى أعمق ومجرد، يتجاوز المعنى الظاهري، ويهدف لتعميق النص، إخفاء المعنى عن السلطات، أو التعبير عن مشاعر معقدة، وهو أداة فنية تعكس رؤية الشاعر وتفاعل تجربته مع التراث والعصر.
أما من حيث المضمون فقد خاض الشعر الحديث حربا ضروسا الى ان اتخذ شكلا مرنا لتسهيل الانخراط في الحقول المعرفية/ الأنطولوجيا أو علم الوجود، كفرع من الفلسفة يبحث في طبيعة الوجود أو الكينونة، والإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة كما تطرح بدوره مجموعة من الأسئلة. وإذا وظفت هذه المكنونات بشكل جمالي منسجم، واتساق فكري فأنه يسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالاتها وشدة تأثيرها في المتلقي.
تتسم بعض النصوص الشعرية بقوة تأثيرها العميق على القارئ، إذ تتوغل في أعماق النفس وتستثير تطلعاته الروحية والمستقبلية. فهي تحفز وجدانه وتدفعه إلى تأمل قضاياه وتجربته الشخصية، مما يجعله يتفاعل بشغف مع معانيها، ليجد فيها انعكاسًا لما يبحث عنه داخليًا.
عند قراءة قصيدة "طور" للشاعر سوران محمد، يجد القارئ نفسه مأخوذًا بسرعة إلى عمق المحتوى وأبعاده الرمزية والإيحائية. كلمة "طور"، بفتح الطاء، تحمل في طياتها غرابة غير مألوفة، تجعلها مشحونة بدلالات عميقة تستدعي التأمل. كما قسم الشاعر متن القصيدة ببراعة إلى ثلاثة مقاطع تمثل مراحل و تجارب مختلفة، لكنها تأتي مخالفة للتسلسل الزمني المألوف؛ فمن المعتاد أن تبدأ رحلة الإنسان من الطفولة مرورًا بالشباب وحتى الشيخوخة. لكن في هذا النص، يبدأ الشاعر من مرحلة الكمال ثم مرحلة الشباب ويتراجع نحو ذكريات ثقيلة ومؤلمة، قبل أن يعبر بنا إلى مرحلة الرضاعة والطفولة، حيث يتراءى المهد وكأنه المحطة الأولى والأخيرة لنقاء الروح. المهد الذي أبعدت عنه هذه الروح النقية قسرًا. هذا البناء الفكري للصور يمثل لعبة بارعة تنسجم مع ثيمة النص وتجربته الإبداعية.
فالعنوان: له معان معجمية عدة كالمرَّةُ والتَّارَة، أو الحدُّ أو الصَّنفُ والنَّوْعُ أو الحال، أو السيطرة، خرَج عن طوره: فقد سيطرته، أو الأطوار: السلوكٍ، أو مرحلة من المراحل. فِي طَوْرِ النَّقَاهَةِ : فِي فَتْرَةِ النَّقَاهَةِ، الخ.....
كما جاء في باب اعتذاريات النابغة الذبياني للنعمان:
تَناذَرها الراقُونَ من سُوءِ سَمِّها
نُطَلِّقُه طَوْراً وطَوْراً تُراجِعُ
ثم نأتي الى أول ما يفتح الشاعربە نصه؛ و نربطه بالثيمة الرئيسية والتي هي عويصة على الفهم وصعب القبول بها، فهو العقدة الوجودية للأنسان على وجه الخليقة، إنّ مسألة الموت قاهر الشعراء وقاهر الكائنات جميعا شكّلت ثيمة أساسية في نصوص معظم الشعراء، فالموت هاجسهم الذي يطاردونه، وصديقهم الذي لا يحبونه، والانشغال بالموت يوقد في نفس الشاعر جذوة قلق لا يسكن. بين الشاعر والموت هنالك علاقة فلسفية عميقة، حيث يراه كحتمية وجودية، مصدر قلق وتأمل، ومحفز للتعبير عن عبثية الحياة أو البحث عن الخلود عبر الإبداع، ويتراوح تعامله معه بين القبول كرحيل حتمي والتحدي واليأس أو كفناء الجمال للروح كما عند الرومانسيين ، لكنه محفز للتعبير عن حكمة الحياة وفنائها، كما هوعند (طرفه بن العبد) تحدي الشهوة: الموت قادم لا محالة، لذا يجب اغتنام لذات الدنيا والإسراف فيها قبل فوات الأوان، كرد فعل عكسي للصدمة.
بينما يعتبر الموت في منظور بعض الشعراء رمزا للخلود: أحياناً يكون الموت معادلاً للخلود عبر الذكرى والإرث الشعري، وهو مصدر للحكمة: يدفع الشعراء للتأمل في حقيقة الحياة وعدم خلود الإنسان كما لە تأثير نفسي عميق، يتراوح بين القلق، اليأس، التحدي، والتقبل، أو كما يراه الاخرون خسارة فادحة: فموت الشاعر يمثل نقصاً في الكون النصي والخيال الإنساني.
والانشغال بالموت يوقد في نفس الشاعر جذوة قلق لا يسكن، فقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (150-204هـ) في هذا المقام:
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ
وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي
فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
اذن طور من أطوار تلك الحقبة الذاتية للشاعر هوالاستدارة نحو نقطة الرجوع بالوقت أو على الاقل ايقافه كما حصل لعزير أو لأصحاب الكهف، فلم لا؟ و الرجوع الى الوراء في ثلاث مقاطع شعرية، ربما يختزل فيه تخيلات الشاعر لمواجهة تلك القساوة التي توصف الحياة احيانا بالموت.
ان أنواع الموت تختلف حسب السياقات، فمن الناحية الطبية هناك الموت السريري (توقف القلب) والموت البيولوجي (موت خلايا الدماغ)، ومن منظور شرعي وإيماني هناك أنواع مثل موت الصالحين والسيئين، بينما من منظور قانوني هناك الوفاة الطبيعية، العرضية، الانتحارية، والقتل، أما في بعض التصنيفات الروحية و الصوفية هناك الموت الأبيض(موت الشهوة)، الأسود(الفناء)، الأحمر(الشهادة للحق)، والأخضر(البقاء).
فالموت يشمل الفرد، الأمة، وفناء العالم، وكما ذكر في القرآن أخطر أنواع الموت هو موت القلب.
لكن النوم والحلم يعتبر نوعا من الموت، فهو نوع من تفكيك الربط بين عالم الحواس والميتافيزيكيا.
هنا يستهل الشاعر نصه بطلب من المخاطب المجهول، أو ربما الذات المعذبة في عالم المتناقضات، أو مناديا تقلبات أطوار المتلقي، اذ تتغير الذات في النصوص العابرة للحدود الى العام، و أنا الى الغير، لعدم وجود حاجز بين عوالم النفوس.
القصيدة تتمحور حول فكرة الصراع الداخلي بين الحياة والموت، وبين الأمل والضياع. تُظهر الفوضى العقلية والفكرية التي يعيشها العالم في ظل ظروف قاسية، حيث يواجه تناقضات داخلية وصراعات مع الزمن والحياة والموت. اضافة الى ان الرمزية الغامضة تُشير إلى رحلة معقدة للبحث عن معنى أو هروب من الواقع المؤلم، وفي النهاية نجد أن الشاعر يقدّم فكرة عن الطمأنينة التي تنتظر في مكان بعيد، ربما في عالم آخر أو بعد الموت، في إشارة إلى الأمل الذي لا ينقطع.
العمق الدلالي :
هذه هي واحدة من القصائد التي تتسم بالعمق والرمزية. يمكن تحليلها من جوانب عدة، مثل الموضوع، الأسلوب، والأدوات البلاغية.... فهي مليئة بالأسئلة الوجودية والتأملات في الحياة والموت والضياع، كما أنها تتنقل بين مشاعر الحزن والانتظار والتفكير في مصير الإنسان. فلنبدأ أولا بالغوص في مفردات و الصور الذهنية للنص ثم نستنتج منها قراءتنا:
لا تموت في هذا اليوم القارس
القصيدة تبدأ بكلمات محملة بالتحذير والنداء، حيث يُطلب من الشخص ألا يموت في "اليوم القارس"، وهو اليوم البارد الذي يرمز ربما إلى لحظة من البؤس أو الإحساس بالوحدة. يربط الشاعر الموت بحالةٍ قاسية، حيث لا قدرة للأيدي المنهكة على مسح الدموع المتجمدة، ما يرمز إلى صعوبة الحياة وشدة القسوة. بينما يذكر الشاعر في هذه البداية البرد القارس (الذي يرمز للموت أو التشتت العاطفي) ويطلب من المتلقي أن يصمد في هذا اليوم، ربما في مواجهة الضعف أو الهزيمة.
"لن تقدر الأنامل المنهكة مسح دموع متجمدة": يتم استخدام صورة اليدين المنهكتين، وهي رمز للضعف والإرهاق العاطفي، لإظهار حالة استسلام أو عجز عن التغيير.
"على رموش شواطئ الرؤية": ربما يشير هذا إلى ضبابية الرؤية والوعي، وكأن العين لا تستطيع احيانا رؤية الحقيقة بوضوح. و قد تشير إلى محاولات الشخص لفهم العالم من خلال حواسه المحدودة أو مشاعره المضطربة. مع ان الشواطئ هنا قد تمثل الحافة أو الحد الفاصل بين الوعي واللاوعي. في هذا التصوير البلاغي البارع، شبه الشاعر العين بالبحر و دموعە بماءه، مع ابقاء دور النظر لها كشاشة شعرية تنظر من خلالها الى العالم.
"لم تعد تتميز الألوان، تتخلج الأفكار في الذهن أسودا و أبيضا": هنا يتحدث الشاعر عن حالة من الشك أو التشتت الذهني. فلا ألوان حقيقية، وكل شيء يتحول إلى رمادي (أبيض وأسود)، مما يعكس التيه أو الخواء.
"كل شيء واه كصرصر بلا رأس": صورة شعرية متميزة، هذا التعبير يعكس صورة الكائن الذي يفقد توازنه أو هدفه، مثل الرياح التي تهب بلا اتجاه محدد. الصرصر: هو الرياح القوية أو العاصفة، وكونه بلا رأس يرمز إلى انعدام الاتجاه أو الهدف، وهو تعبير عن حالة من الضياع، و أنسنة الريح هنا بأعطاءه رأسا يدل على براعة و قدرة التخييل عند الشاعر لأبتكار صور شعرية مجازية.
"تارة تغطي وجهك يد، لئلا تفوه الشفاه بكلمات مجددا": في هذا السطر يظهر الصراع بين السكوت والتعبير. يبدو أن الشخص في حالة من التردد أو الخوف من مواجهة الواقع من مناظر متكررة مملة، يتجلى هنا الانفصال عن العالم الخارجي، وكأن الانسان أصبح غريبًا حتى في مكانه، هنا يذكر الشاعر أنه لم يعد يتعرف على وجوه الناس حوله، ما يعكس شعوراً بالغربة عن العالم المحيط. أما العصفور الذي "طار من قفص صدره"، فقد يشير إلى فكرة الحرية المفقودة أو الهروب من قيد، ربما قيد داخلي أو خارجي. وهو في زاوية أخرى رمز للبراءة الداخلية.
"اثنان على خطوط العرض يمشيان هونا كأنما يدوسان على بيض الحياة": صور مزدوجة للمفارقات، هذه صورة غامضة تشير إلى خوض الحياة بحذر شديد، كما لو كانت الحياة في حد ذاتها هشة جداً (بيض الحياة) لفظ مركب يرسم صورة شعرية غير مألوفة، أو ربما يكون رمزًا للعواقب الصغيرة التي قد تكون مدمرة إذا لم يتم التعامل معها بعناية.
"صوت صياح الديك وسكين الجزار يمتزج بثرثرتهما" يوحي بوجود مفارقة بين الحياة والموت، بين البدايات والنهايات، وكأن الحياة تتداخل مع الموت بطرق غريبة وغير مفهومة، وما الجلاد و الضحية الا مفردات مبتدعة في معاجم البشر.
"ألحان بلا معنى": اشارة على أن الحديث أو الحوار في زمن الشاعر فقد جوهره أو معناه. ثم يأتي مطردا شطر:"هل للكلام دوما وجه؟": هذا سؤال وجودي يسائل الحقيقة وراء الكلمات، ويستفسر عن قيمة الحوار وما إذا كان يعكس الحقيقة أم لا، فالوجه في المعاجم يأتي بمعنى النوع والضرب مثل (كلام لا وجه له). فليس كل ما يقال جدير بالاستماع اليه أو ذا قيمة.
"خطوتان الى الوراء ثم آنظر.. حل الخريف على الأغضان": الخريف هنا قد يرمز إلى مرحلة من التحول أو النهاية. إنها دعوة للتراجع قليلاً للتفكير، كما انه يرمز إلى التغيير والانتقال، يتقاطع هنا مع فكرة "الرحيل" و"الضياع". كما أن "أوراق قميصك تتساقط" تلمح إلى فكرة فقدان شيء ما من الذات أو الشخص أو العمر، وهكذا مع كل سقوط ورقة أو نهاية لا تقف حركة الحياة، فبماذا تغرك العمر؟"لن تتوقف اشارات المرور من أجل نعش"، هذا ضرب من المثل احتواه هذا النص اذ يستحسن استعماله في مواقف معينة في الحياة، كما ان دوران المجرات في السماء لا يتوقف بموت أحد ولو كان ابنا للرسول، وهكذا الاحوال في الارض، هذه صورة شعرية اصيلة المغزى، فهي من جهة ساخرة، تشير إلى أن الحياة مستمرة، ومن ناحية أخرى تشير الى لحظات الحزن أو الموت مع غياب للمواساة ولا شيء يتوقف في الغياب، مما يعكس العدمية أو القسوة التي تتميز بها الحياة، اذا نظرنا اليها من منظور مادي بحت.
"ليس بوسعك فعل شيء سوى النزول من السطح على سلم الزمن": هنا يظهر الشاعر فشل الإنسان في الهروب من الزمن أو من مصيره. الحل الوحيد هو الخروج من الزمن العام والغوص في عوالم الذات و الانعزال الشعوري أثناء حدوث فوضى خلاق، النزول إلى الأسفل، حيث يصبح الوجود محاصرًا في دائرة تحافظ الفرد فيهاعلى هويته و مبادئه، لغرض الانسحاب من معمعة الحياة بشكل تدريجي والمكوث في البرج الكلمة العاجي. وهنا يوجد وجه التشابه بين المهد والقبر من حيث الرقود في مرعلتي البدء والختام.
"إلى الأسفل حيث ترى مهدا ترقد فيه روح": المهد هنا ربما يكون رمزا للراحة أو الاستسلام، حيث تنام الروح فيه دون الجسد، بانتظار حدوث الالتحام الجديد بين الروح والجسد، بعد مفارقة هذه اللحظات العصيبة في الحياة.وما الحياة الا انطباع لتصوراتنا، لكن المهد يرمز للعودة إلى براءة الطفولة أو مكان آمن. ربما يكون هذا المهد مكاناً روحياً، يشير إلى الراحة أو الخلاص الذي يتمناه الشاعر. في هذا السياق، يشير الشاعر إلى أن الذي مرت عليه كل هذه التجارب والمشاعر لا يزال يبحث عن مكان يلجأ إليه والأمل هو الحافز لسيرورة ومزاولة تجارب الحياة.
"في ليلة، سقطت من بين أنياب ذئبة عجوز، وقعت على رصيف شارع خال.. هرعت بمحاذاة شعارات ملونة": هذا المشهد يعكس حالة من الوحدة في عالم مليء بالمظاهر والضجيج، ولكنه فارغ من المعنى الحقيقي، كلها كلام و وعود بلا تطبيق، دوما ينخدع الانسان بالشعارات الفضفاضة ويقع في نفس الخطيئة التي وقع فيها أبونا آدم وحواء. وبعد عناء و شغف"هكذا فركت الأحلام عيونها" الأحلام هنا قد تكون تمثيلًا للأمل الذي يتجدد بعد المخاض، رغم أنها ليست واضحة أو حقيقية، لكن بمحاذاة الزوابع هنالك دوما بصيص أمل لوجود الراحة والأمان في العالم المظلم والمضطرب، ربما يكون هذا الملجأ رمزًا للتناغم الذي يبحث عنه الانسان المرهق في عصر التكنلوجيا.
الخلاصة:
يمكننا أن نستنتج من هذه القراءة أن النصوص الأدبية الغنية قد تحمل أبعادًا متعددة للفهم والتفسير والاستمتاع بها، يتوقف على فهم القارئ وبديهته ومستوى اطلاعه الشعري والمعرفي. وما هذه القراءة التحليلية إلا مجرد رأي وإشارة سريعة نحو تلك النصوص الإبداعية التي نغفل عنها أحيانًا، سواء تحت تأثير الأحكام التقليدية التي تحكم نظرتنا إلى الشعر أو بسبب عدم توافقه مع ميولنا وتطلعاتنا الثقافية.
لكن، بما أن اللغة هي نظام الدلالات والرموز، فإن تشكيلها في قوالب الشعر يتطلب التأني والجدية عند التعامل معها. فالقصور غالبًا لا يكمن في النصوص ذاتها، بل في طرق قراءتها وتحليلها. كم من نصوص لم تلقَ اهتمامًا في زمنها، ثم عادت لتتخذ مكانتها اللائقة بفعل تغيير النظرة الثقافية عندما أصبحت الفنون التعبيرية جزءًا من ارتقاء الإنسان وثقافته.
بهذا الشكل، تبقى القيمة الجمالية للنصوص نسبيّة؛ فبينما يراها البعض قائمة على جمال الألفاظ وقوتها وإبداع العبارات الفريدة، يسعى آخرون لاكتشاف ما تخفيه النصوص بين السطور، خاصة مع إدراك أن لغة الشعر تتسم بالخروج عن المألوف والانزياح عن الاستعمال اليومي. هنا يكون على القارئ بذل جهد لفك شيفرات النصوص والغوص في أعماقها لاستكشاف جمالياتها المضمرة، ليصل إلى تلك المتعة التي وصفها رولان بارث بأنها لذة النص.
هكذا، يثبت النص قوته من خلال الرؤية والأسلوب الفريدين اللذين يميزانه عن غيره، عندما يتم صياغته بعناية وحرفة تعكس معرفة الشاعر بفن وهندسة الشعر.
قد استنتجنا بأن هذه القصيدة (طور) تحمل العديد من الرموز والتلميحات الفلسفية التي تتعامل مع فكرة الحياة والموت، والبحث عن معنى في عالم مليء بالفراغ واللامبالاة. يتناول الشاعر مفهومًا فلسفيًا أو وجوديًا، حيث يمزج بين الطبيعة والتجربة البشرية، كمثال (تمايل نعش فيالقاع و سقوط الشمس في جحر ألافق).
القصيدة تعكس حالة من التشتت الذهني والروحي، مع التركيز على الحياة كعملية مرهقة، مليئة بالتقلبات والضياع. هناك شعور بالثقل والفراغ، ومع ذلك، يتمسك الشاعر بالأمل في العودة إلى شيء أكثر براءة أو سلاماً (المهد) تجعل القصيدة غنية بالإيحاءات والتأملات الفلسفية حول معنى الحياة والموت، وتفاصيل القلق الوجودي.
قد يتطرق الشاعر من خلال هذه القصيدة إلى التأمل في الزمن، أو في الصراع الداخلي، أو حتى إلى مرحلة معينة في الحياة حيث تتطلب الصمود والنهوض.
يتميز أسلوب الشاعر بالعمق حيث يعبر عن أفكاره بطريقة سلسة ولكن في الوقت نفسه عميقة، وهو يكثر استخدام الصور الشعرية المتجددة التي تمزج بين الخيال والواقع، مما يسمح للقارئ بالغوص في معاني القصيدة بشكل أعمق، مع انه يكثر من استخدام التشبيهات والاستعارات كآلة شعرية مٶثرة لتوصيل مشاعره وأفكاره. وهذا يساعد على جذب القارئ العادي بالإضافة إلى القارئ الذي يبحث عن تحليل دقيق، تعدد المعان يجعلها قصيدة مفتوحة للتفاسير.
في الاخير نستطيع القول بأن قصيدة "طور" تمثل صورة شاعرية قوية تعكس صراع الإنسان مع تحديات الحياة، وتمثل رغبة في التغلب على المصاعب. الشاعر يوفق بين المعاني الفلسفية والعاطفية بأسلوب شعري مؤثر غير صريح.
***
*مصدر النص: الحوار المتمدن، الثقافة والادب، ٢١ ٢٠٢٥، نص (طَور)، الشاعر سوران محمد.
مشاهدات 63
الكاتب ربيع ابراهيم محمود
أضيف 2025/12/23 - 4:11 PM
آخر تحديث 2025/12/24 - 1:54 AM