عرب الجاهلية الثانية
حسين وناس الخزاعي
لقد شهدت أرض العروبة في حقبة ما قبل الإسلام، والتي تُعرف بالجاهلية الأولى، عصراً حالكاً تجرع فيه العرب مرارة الذل والهوان تحت سنابك خيول الغزاة الرومان والفرس المجوس. لم يكونوا حينها سوى أمة مستضعفة، تُكال لهم صنوف العذاب والإهانة دون رادع أو وازع من ضمير. كان قادتهم وشيوخهم يلوذون بالخضوع والاستسلام لمن يفرض سيطرته على الديار العربية، مُذعنين لإرادة الجيوش الغازية التي استعبدت البلاد وأهلها لإشباع مطامعها وأهدافها التوسعية.
إلى أن بزغ فجر الإسلام بنور النبوة المحمدية صلى الله عليه وآله وسلم، فانتشل العرب من وهدة الشرك وعبادة الأوثان التي جلبها المستعمرون الطغاة، وحررهم من ربقة الاستعباد الأجنبي البغيض. قاد الرسول الأعظم أمته نحو العزة والكرامة، ونجح في إجلاء جيوش الاحتلال الرومانية والفارسية، محققاً نصراً مؤزراً أعاد للعرب استقلالهم الديني والسياسي والجغرافي، ومحا آثار الاستعمار البربري من ربوع بلادهم.
عاش العرب في كنف الإسلام عصراً ذهبياً تجلى في قوته ووحدته وازدهاره، وامتد هذا العهد الميمون حتى انقضاء فترة حكم الرسول الكريم وخلفائه الراشدين من أهل بيته الأطهار. بيد أن رياح التغيير هبت بعد ذلك، واستحوذ على السلطة قادة لم يكونوا على قدر المسؤولية، ولا يملكون الحكمة والدراية اللازمتين لإدارة شؤون الأمة. فكانت النتيجة تدهوراً في الأوضاع، وشيوعاً للظلم والاستبداد في ربوع المجتمع العربي.
ومع بالغ الأسف، نشهد اليوم تجلياً مشابهاً لما حدث في الجاهلية الأولى، حيث تُداس رؤوس العرب مجدداً بحوافر قوى الاستعمار الحديث، وتُسحق إرادتهم تحت وطأة التدخلات الأجنبية السافرة. يعود قادة اليوم إلى ذات النهج القديم من التذلل والخضوع أمام قوى القتل والدمار، أمام آلة الحرب الاستعمارية التي تمطر البلاد العربية بالقنابل المحرمة والأسلحة الفتاكة. هذا الخضوع الأعمى فتح الباب واسعاً أمام التدخل الأجنبي في كافة مفاصل الإدارات العربية، دون مقاومة تُذكر أو رادع حقيقي.
إن ما قد عاشه العرب في الجاهلية الأولى يتجسد اليوم واقعاً مريراً، وقد أفرزت هذه الأحداث الدامية والمحبطة ما يمكن أن نطلق عليه "عرب الجاهلية الثانية"، حيث نعيش تحت وطأة قوانين زائفة ومنحرفة لم ينزل بها الله من سلطان، قوانين تجعل رؤوس العرب تنحني خضوعاً أمام جبروت قياصرة هذا الزمان وطغيان كسراه.
لذا فإن المسؤولية التاريخية والواجب الشرعي والقومي يحتم علينا نحن جيل العرب الحالي، أن ننهض بوعي وإدراك لمخاطر هذه الجاهلية الثانية، وأن ندعو بكل قوة وإصرار إلى إزالتها وإزالة حكامها وزعاماتها وأدواتها وكل مظاهر الغزو الأجنبي البربري، سعياً نحو استعادة العزة والكرامة والاستقلال الحقيقي لأمتنا العربية.