العنف الأسري جريمة صامتة
سالي خليل
في ليلة شتوية باردة، جلست “ز.ت” ذات العشر سنوات في زاوية غرفتها المظلمة، تعانق دميتها الصغيرة وتضغط عليها بكل قوتها وكأنها تحتمي بها من العالم، خلف الباب المغلق كانت أصوات الصراخ والضرب تتصاعد، كلمات جارحة ووقع أيدٍ غاضبة، هذا المشهد لم يكن جديدًا عليها، بل كان جزءاً من يومياتها منذ سنوات، العنف في بيتها لم يكن مجرد حادثة عابرة، بل أصبح قاعدة لا استثناء، ومع كل يوم كانت ليلى تفقد جزءًا من طفولتها وطمأنينتها، لتتحول إلى نسخة صغيرة من الكبار المرهقين، قصتها ليست الوحيدة، بل تتكرر بأشكال وصور مختلفة في آلاف البيوت، إذ يختبئ الألم وراء الجدران ويصمت الجميع خوفاً أو خجلاً أو رضوخاً لعادات ومفاهيم خاطئة، وكل مما سبق من الأذى يدعى بـ"العنف الأسري".
يعرف العنف الأسري هو كل فعل أو امتناع عن فعل يرتكبه أحد أفراد الأسرة ضد فرد آخر بهدف السيطرة أو الإضرار به، ويؤدي إلى أذى جسدي أو نفسي أو اقتصادي، ويأخذ هذا العنف أشكالاً متعددة، منها الضرب المباشر، الإهانة اللفظية، العزل الاجتماعي، الحرمان من المال، السيطرة على القرارات الشخصية، وحتى التهديد الذي يزرع الخوف في النفس، كما أن العنف الأسري لا يُختزل في الضرب فقط، بل يشمل كل ما ينال من كرامة الفرد وحقوقه، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر، ويشيرون إلى أن الخطر الأكبر يكمن في استمراريته وتكراره، مما يحوله إلى نمط حياة مدمر يعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال.
أسباب العنف الأسري:
1. الموروثات الاجتماعية والثقافية:
في بعض البيئات ما زالت تُرسَّخ أفكار تعطي السلطة المطلقة للرجل على المرأة، أو للأب على الأبناء، وتبرر استخدام العنف كوسيلة للتأديب أو فرض النظام، هذه المعتقدات المغلوطة تمنح المعتدي شرعية زائفة وتخلق بيئة تسمح بتكرار الانتهاكات.
2. الضغوط الاقتصادية:
الفقر، البطالة، وارتفاع تكاليف المعيشة تجعل البيت بيئة مشحونة بالتوتر، حيث يتحول الغضب والإحباط إلى عنف موجه نحو الأضعف، وغالباً ما تكون النساء والأطفال هم الضحايا.
3. الاضطرابات النفسية والسلوكية:
الإدمان على الكحول أو المخدرات، الأمراض العقلية غير المعالجة، أو الخبرات الطفولية المليئة بالعنف، كلها عوامل تزيد من احتمالية ممارسة العنف داخل الأسرة.
4. ضعف الوعي القانوني:
كثير من الضحايا يجهلون حقوقهم أو يفتقرون إلى الثقة بقدرة القانون على حمايتهم، ما يجعلهم يترددون في طلب المساعدة أو الإبلاغ.
آثار ومشكلات العنف الأسري:
العنف الأسري لا يتوقف عند لحظة الاعتداء، بل يترك آثاراً عميقة تمتد لسنوات طويلة، وقد تتجاوز الأجيال، ومن أبرز نتائجه:
1.تفكك الروابط الأسرية: يؤدي العنف إلى انهيار الثقة، وفقدان التواصل الصحي بين الأفراد، وزيادة معدلات الطلاق أو الانفصال العاطفي.
2. آثار نفسية طويلة المدى: الضحايا يعانون من الاكتئاب، القلق، اضطراب ما بعد الصدمة، وفقدان الثقة بالنفس، وهي جروح غير مرئية لكنها مؤلمة.
3.تأثير سلبي على الأطفال: الأطفال الذين ينشأون في بيئة عنيفة يكونون أكثر عرضة لتكرار العنف في حياتهم الزوجية مستقبلاً، أو لتبني سلوكيات عدوانية أو انسحابية.
4.عبء اقتصادي وصحي: العنف يولد تكاليف علاجية باهظة، ويقلل من إنتاجية الأفراد، ويؤثر على الاقتصاد الوطني.
الحلول المقترحة:
1. سن وتشديد القوانين: يجب أن تكون القوانين واضحة وصارمة في تجريم العنف الأسري، مع توفير آليات سهلة وسريعة لحماية الضحايا.
2. حملات توعية واسعة: استخدام الإعلام والمدارس والمؤسسات الدينية لتغيير المفاهيم المغلوطة وتعزيز قيم الاحترام والحوار.
3. إنشاء مراكز حماية وإيواء: تقديم دعم نفسي، قانوني، واجتماعي للضحايا، وتوفير بيئة آمنة لهم.
4. تمكين اقتصادي للمرأة: دعم برامج التدريب وفرص العمل لتقليل التبعية المالية للضحايا.
5. تأهيل المعتدين: برامج علاجية تهدف إلى تعديل السلوك ومنع تكرار العنف.
وفي الختام إن العنف الأسري يعد قضية تمس المجتمع بأسره، إذ يهدد سلامه النفسي واستقراره الاجتماعي، ومواجهته ليست خيارًا بل ضرورة، تتطلب تضافر جهود الدولة، المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، فضلًا عن دور الأفراد في التبليغ والدعم، فالمجتمع الذي لا يحمي أضعف أفراده، يترك جرحاً ينزف في قلبه، وبناء بيت آمن هو الخطوة الأولى نحو بناء وطن آمن.