الكون بين العلم والقرآن.. رؤية حضارية متناغمة
محمد عبد الجبار الشبوط
حين نتأمل الكون بعين العلم وبصيرة القرآن، نجد أنفسنا أمام مشهد فريد: لوحة فنية مهيبة رسمها الخالق العظيم، حيث تتعانق المعادلات الكونية مع الآيات البينات في سيمفونية لا يشبهها شيء. العلم يخبرنا أن هذه اللوحة وُلدت قبل أكثر من 13.8 مليار سنة من انفجار كوني عظيم (Big Bang)، انطلقت منه الزمكان والمادة والطاقة، لتتشكل المجرات والنجوم والكواكب عبر بلايين السنين. والقرآن، بلغة الوحي، يرسم لنا الإطار الغائي لهذا الوجود: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) [النمل: 88]، مؤكّدًا أن هذا الإتقان ليس مصادفة عمياء، بل فعل قصد وإبداع.
الخلق الأول… ومشهد الجمال القابل للتكميل
في العلم، الكون ما زال في حالة تمدد مستمر، وأن أنظمته الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية تشهد تغيرًا دائمًا. وفي القرآن، نجد أن الخلق ليس حدثًا جامدًا، بل عملية متجددة: (بل هم في لبس من خلق جديد) [ق: 15]. هذه الإشارة تكشف أن الخلق الأول كان بداية رحلة، وأن اللوحة الكونية لم تُنجز لتبقى ساكنة، بل لتكون قابلة للتكميل.
الإعادة الكبرى… نحو جمال أكمل
العلم يتحدث عن احتمالات لمستقبل الكون: الانكماش العظيم (Big Crunch)، أو الموت الحراري (Heat Death)، أو غيرها من السيناريوهات. لكن القرآن يعرض لنا يقينًا مختلفًا: (يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات) [إبراهيم: 48]. هنا لا نرى الفناء كحقيقة نهائية، بل إعادة صياغة كبرى للكون — إعادة رسم للوحة، ولكن بألوان أبهى وخطوط أكمل.
ويضيف القرآن بعدًا زمنيًا مذهلًا: (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) [المعارج: 4]. إنها رحلة إعادة الخلق في مقياس زمني كوني، يعجز الخيال البشري عن استيعابه.
الرؤية الحضارية: الكون في مسار نحو الكمال.
في الفهم الحضاري، الكون ليس مجرد مسرح للأحداث الفيزيائية، ولا حقلًا لتفاعلات عمياء، بل مسار واعٍ نحو كمال مقصود. قوانين الفيزياء، من الجاذبية إلى ميكانيكا الكم، هي أدوات إلهية في هذه العملية، مثلما أن المقادير الجمالية في لوحة الرسام ليست صدفة، بل اختيار مقصود. وهنا يلتقي العلم والقرآن في فهم أعمق: العلم يصف الآليات، والقرآن يكشف الغاية.
الإنسان… شريك في مسيرة الكمال
الرؤية الحضارية تضيف أن الإنسان ليس متفرجًا في هذه اللوحة، بل جزء منها وفاعل في مسارها. هو مخلوق مؤهل بالعلم والعمل ليكون خليفة، أي عنصرًا فاعلًا في تطوير الحياة على الأرض وفق منظومة القيم العليا. بهذا، يصبح وعي الإنسان بالكون وغاياته شرطًا من شروط أداء وظيفته الحضارية.
خاتمة:
الكون، في ضوء هذه الرؤية، ليس عبثًا ولا مجرد مادة تتحرك، بل عمل فني إلهي بديع، بدأ من نقطة واحدة، ويتطور نحو مشهد أعظم جمالًا. العلم يمنحنا التفاصيل، والقرآن يمنحنا المعنى.
وفي هذا التلاقي الهارموني بين العلم والقرآن، تتجلى الرؤية الحضارية التي ترى الكون طريقًا نحو الكمال، والإنسان جزءًا من هذا الطريق.