دراسة في السلوك الإجتماعي
حادثة طعن بقطار بريطاني
همام الشريفي
(ان الشأن الذي يخص الجميع، لا يأخذ مسؤوليته أحد)
تمهيد:
طالعتنا الاخبار يوم السبت 1 تشرين الثاني، بأن الشرطة البريطانية قد القت القبض على اثنين متهمين بطعن عشرة اشخاص على متن قطار متجه إلى لندن في منطقة كمبريدشير (شمال شرق العاصمة). ذكر شهود عيان الذعر الذي اصاب المسافرين وهم يشهدوا هجمات الطعن المتواصلة مع منظر الدماء المسالة على ارض القطار، حيث ذهب البعض إلى المرافق الصحية للقطار واوصدوا الابواب على انفسهم.
جغرافية المجتمعات
من الملفت للنظر ان هكذا جريمة ترتكب بحق مواطنين أبرياء قد لا يأخذ هذا البعد من السعة والوحشية المفرطة في مجتمعات كتلك التي في الشرق الاوسط، بسبب تدخل الشباب او اصحاب القوة الجسدية للحيلولة دون تطوره بدوافع النخوة والشهامة والشرف ونكران الذات. هذا المشهد يختلف في المجتمعات الاوربية ومنها المجتمع البريطاني، حيث يعزف الغالبية العظمى عن التدخل في حوادث العنف والسرقة والاعتداء او السجالات بين الأفراد او تعنيف الاطفال او ضرب صغار العمر وحتى الإصابات الصحية الناتجة عن الأزمات القلبية او الجلطات الدماغية او السقوط من ارتفاع عالٍ او حوادث اصطدام السيارات على الطرق.
نمط السلوك الاجتماعي:
هناك اسباب كثيرة لهذا السلوك الاجتماعي ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تجذّر ثقافة «النظر إلى الداخل» و»الاستقلالية الفردية» وعدم التدخل في شؤون الآخرين من باب تأمين الحرية الشخصية التي يكفلها القانون البريطاني في الملبس والمأكل والتعبير عن الرأي. عموما، يخشى الفرد البريطاني التدخل في شؤون الآخرين بسبب سيادة ثقافة التعويض المادي في المحاكم تحت عنوان القوانين الجنائية والمدنية. ان تدوين التفاصيل الشخصية لاي شخص بريطاني في سجل المحاكم، قد ينهي إجازته المهنية ووظيفته في القطاعين العام والخاص ضمن مجالات الهندسة والطب والحقوق والمحاسبة والتدريس والتمريض وقيادة السيارات او القطارات او الطائرات والإعلام وادارة الشركات وأخذ المقاولات وغيرها لان الامر متعلق «بتكامل الشخصية المسؤولة» حسب التعريفات القانونية المعمول بها حاليا.
ظلال الفردية:
بسبب ضعف مفهوم الاسرة بالعزوف عن الزواج وغلبة الفردية المنغلقة في المجتمع البريطاني، يتجنب احدهم حتى من اطالة النظر إلى الآخرين في الشارع العام، لأنه يعد استفزازا مباشرا او يتضمن جانب من السخرية المرفوضة اجتماعيا. من خلال عملي المهني خلال ٢٧ عاما في المملكة المتحدة، جابهت صعوبة بالغة في الاختلاط مع جيل الشباب البريطاني، ولكن الامر كان أكثر سهولة وسعة مع كبار السن من زملائي في العمل، لان هذا الجيل لا يزال يؤمن بقيم الاسرة من حجمها الاولي في بداية الاقتران والزواج وحتى حدود المحلة الكبيرة والمنطقة التي ينتمي اليها. هؤلاء الزملاء كانوا يستأنسون كثيرا بالاطلاع على ثقافتي الأصلية في العراق بما يخص العادات الاجتماعية والمأكل والملبس والمناسبات الدينية والتاريخ، مستذكرين مبادئ الإمبراطورية البريطانية في أواسط القرن الماضي والتي كانت لا تتدخل في عقائد وثقافات المجتمعات التي تستعمرها.
المسؤولية القانونية:
هناك عنصر آخر يمنع الفرد البريطاني من التدخل في حالات الإصابة الصحية، وهو التعليم السائد ان تحريك المصابين بكسور معينة او نزيف داخلي او هبوط حاد بالضغط او اختلال نسبة السكر في الدم وغيرها من الاعراض، قد تزيد الخطورة على حياة المصاب بما يعرض المسعف إلى مساءلة قانونية. لذلك يقوم الأفراد بالاتصال بهواتف الطوارئ المشتركة بين خدمات الإسعاف الطبي ونجدة الشرطة وفرق اطفاء الحريق واتباع النصائح التي تعطى بصورة لفظية حيث ان جميع المكالمات مسجلة لأسباب قانونية وحقوقية.
حكمة قديمة:
اختم الموضوع بما أطل علينا الكاتب الروائي البريطاني دانيال ديفو في عام ١٧٠٥ وهو صاحب رواية «روبنسن كروزو» الشهيرة، حيث قال (ان الشأن الذي يخص الجميع، لا يأخذ مسؤوليته أحد). وهو بذلك يعبر عن فكرة اجتماعية غاية في الأهمية تتلخص في أنه عندما يكون هناك عدد كبير من الأشخاص مسؤولون اجتماعيا واخلاقيا واعتباريا عن عمل شيء ما، لا يتقدم أحد منهم لتبني المسؤولية بالنيابة عن الجميع. هنا نسأل هل نحتاج إلى ثقافة مجتمعية جديدة او اعادة النظر في الروابط الاسرية تحت تأثير الانعزالية والفردية والاستقلالية والتي تعززها وبقوة وسائل التواصل الاجتماعي من جهة وترسخها تطورات الذكاء الاصطناعي من جهة ثانية؟
.