الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في حوار مع الروائي والكاتب نعيم عبد مهلهل.. أسئلة الرواية والحياة وعوالم الأهوار والمندائيين


في حوار مع الروائي والكاتب نعيم عبد مهلهل.. أسئلة الرواية والحياة وعوالم الأهوار والمندائيين

كريم الزيدي

 

يعمل الروائي والشاعر والناقد العراقي « نعيم عبد مهلهل « على ثيمات ابداعية مختلفة وفي شتى الاجناس الادبية التي  تحمل بعض مفارقاتها وخيارتها ،، ففي الشهر الذي تظهر له رواية عن عوالم الأهوار وبيئاتها الغريبة والساحرة عن دار الشؤون الثقافية في بغداد .يظهر له كتابا جماليا عن شاعر فرنسي مهم وصعب يدعى « سان جون بيرس « وعن دار الدراويش في بلغاريا . وهكذا منذ انتقاله للعيشش في المانيا ونعيم عبد مهلهل يعيش في خياله الجامح ويصدر كل عام ستت كتب في تنوع معرفي ودهشة تمضي معه تتلبسه كما تتلبس الصوفي الرؤيا .

هذا التنوع الذي بما قد وصل الى 100 كتاب هو الآن اريكة اسئلتنا اليه .ولكن عبر هواجس فكرية تحددها قراءاتي لنعيم عبد مهلهل منذ سنوات صداقتنا واحلامنا المشتركة عندما كنت اراه من القلائل الذين ينظرون الى قصائدي بوعي القراءة الروحية أولا .

قارئ لذاته وذوات الاخرين ويتلاعب بمشهد السرد عبر غواية اللغة والصورة والشعرية التي تميزه سردا وشعرا .وهو اكثر كاتب عراقي من اهدى اهوار بلاده منجزات ابداعية وصلت الى 12 كتابا . وربما اكثر كاتب عراقي من كتب عن المندائية واقيمت له عدة حفلات توقيع في مندي الصابئة المندائيين في مدينته الناصرية 12 كتابا . نعيم عبد مهلهل الذي استحق 12 جائزة ادبية نلتقي معه في هذا الحوار لنكتشف عالمه وفضاءته وفلسفته في الحياة .

نعيم عبد مهلهل ، لماذا تكتب ؟

ــ أكتب حتى اعيش عمرا أطولا ..واشعر انهم حدثونا عن عمر نوح لنعيش أعمارنا مثله ..وقالوا لنا انه ببضل كونه نبيا وحاذقا وموجها روحيا لسفينة النجاة .فأنه ربان سفينة البشر ومن يحسن قيادتها مثله سيعيش سعيدا وبعمر الطول .والكتابة هي من بعض مكونات السفينة وربما تكون هي دفة القيادة أو الشراع . بعضهم يعتقد ان الكتابة الموهبة أولا .ولكن الموهبة تحتاج الى حماس روحي يجعلها منظورة ومعلومة ومفيدة .. انا اكتب بموهبتي وحماسي الروحي رغبة من لأرتدي من نوح همته وعاطفته وحكمته وليس بالضرورة ان ارتدي عمره .

الرواية أم الشعر . أقرب الى لحظة الكتابة ؟

ــ الرواية تُكتب في طقس ومكان .والشعر يكتب مثلها في ذات المكان ولكن طقسه مختلف ..واظن ان كل لحظة تلد لها مشاعرها لبخاصة .ولكن حين يتحول الامر الى ما يشبه الاحتراف تستطيع ان تبرمج تلك اللحظة وتستعيدها في طقسك اليومي مثلا اثناء شرب القهوة أو سماع كوكب الشرق أو الجلوس في حديقة البيت والبعض لذة الكتابة وايحاءاتها تأتيه وهو على سرير نومه .

لحظة كتابة

لحظة الكتابة هي الشعور بأن الوقت قد حان لتقول شيئا تثبت فيها لنفسك ان مافيك ينبغي أن يمثلك بصورة كلمة وكتاب .ومتى حدث هذا تكون الكتابة قد صنعت منك راكبا مميزا في سفينة نوح .

لحظة الكتابة هي وعي لمدرك تريد فيه ان تحول الخيال الى واقع والذكريات الى زمن حين تدونه يصبح حاضرا ولا يضيع ..انها طقوس تختار لها رؤوس تشعر فيها انها امتلكت ارائك الحضور في المسيرة الحضارية والطقوسية للبشر .لتشعر أن الكتابة هي طاقة الانسان ليثبت ان الحركة لاتبدا من الاصابع وانما تبدأ من نبض القلب وتفكير العقل والكتابة في النهاية تمثل اضلاع مثلث فيثاغورس العقل والقلب والاصبع واضيف لهم في زمن العولمة مفتاح الكيبورد.

الميثولوجيا التي ارى انك تُحسن الكتابة فيها هل هي وعي لعقل بشري مبتكر أم شطحات لخيال ذلك العقل ؟

--   اعتقد أن الميثولوجيا هي نتاج الاثنين .العقل الواعي والخيال في شطحاته ورؤاه التي كانت تراقب متغيرات الطبيعة وتوعزها الى قوى خفية افترضتها الهة تسكن في الاعالي وهي من تسير اقدار البشر وتوزع عليهم اقدارهم وارزاقهم .وهذا الامر تحدثت عنه كتب ونظريات وافتراضات وآداب مقارنة وبحوث اثرية ولا يمكن ان يضاف عليه شيء جديد لقد استكملت فيه الرؤيا والقناعة واصبحت الميثولجيا علما للاساطير ..وما يهمني منها هو عصرنة هذه الاساطير وحكايتها وجعلها تتجدد مع حاضرنا من خلال الاستفادة من دروسها وتجاربها وفلسفتها وحكمتها وأقرب ما استفدت منه في رواياتي هي ملحمة جلجامش درس الحياة المتجدد كل يوم في حياة البشر والجواب الشافي لهاجس الخلود الذي يتمناه الكثير.وغير جلجامش استفادت تجربتي السردية من قصة الخليقة وحكاية آدابا وغيرها . وطالما شعرت وأنا في الأهوار اشتغل معلما في مدرسة ابتدائية ان الكثير من الارث المتناسل بين أهل قرى الأهوار يعود الى تلك الاخيلة التي تعتمد على الميتافيزيقا في تغير والسير الى  اقدارها وأظن أن استفدت من هذا الوصال الخفي بين امكنة الأهوار والاساطير والارث الديني والاجتماعي في كتاب قصصي صدر في عمان من سنتين عنوانه « أنبياء الأهوار «.انه قصص لروحانيات الاسماء عند مجتمع يعرف صدى قدسية الاسم ولا يعرف سيرته الذاتية . فمثلا يسمون ابنائهم يوسف وهم لايعرفون حكاية قميصه واحلامه والبئر وبراءة الذئب .يعرفونه نبي من انبياء الله .انه فعل الغريزة وهاجسها الروحي وفيه ايضا الكثير من الميثولوجيا .

انبياء الاهوار

*نعم قرات كتابك القصصي أنبياء الأهوار والذي اعتبره الشاعر والناقد اللبناني « عباس بيضون « في مقالة مهمه عنه في صحيفة العربي الجديد على انه رواية عندما كتب : لسنا هنا في أرض النبوءات. ولسنا وحدنا مَن يعلم ذلك، فالعراقي نعيم عبد مهلهل، مؤلّف الرواية، لا يغفل عن ذكره. ليست الأهوار فلسطين، ولم يطأ أرضها نبيّ. ليس لها نبيٌّ خاصّ إلّا ذلك النبي الذي لا نعرف له موطناً، والبلاد جميعها ــ والأهوار منها ــ مَواطن له.

أنبياء الأهوار إذاً ليسوا من الأهوار ولم يعرفوها، فكيف حمل الكتاب هذا العنوان؟

هذه واحدة من مفارقات الكتاب وليست الوحيدة، فالنصّ عامرٌ بالمفارقات.

هل اخطئ في التجنيس أم انه شعر بأن انبياء الأهوار رواية ؟

ــ الشاعر الكبير عباس بيضون لم يخطئ في قراءته وهو يعرف أن غلاف الكتاب يحمل تجنسيا يقول انها مجموعة قصصية لكنه رآه هكذا حين قرأه وشعر ان تسلسلات روح الرواية هو بنيتها واحداثها ورؤاها السمأوية والمجتمعية تجنس على انني كنت اتحدث عن سردٍ لرواية ابطالها الانبياء بمسمياتهم وقصصهم وعن أهل الأهوار بفطرة العقيدة والانتماء الغيب والروحي الى تلك الاسماء .

أفترضه رواية لأن القصص ترابطت بهاجس واحد تصاعدت فيه دراما الحدث الكوني منذ ادم  « ع  :صعودا حتى النبي محمد « ص « . ومتى قرأت رؤية السيد بيضون وما يفترضه شعرت انه في قراءته الاخرى كان محقا .لقد تعامل مع المكان كما سمع عنه وقرأ وكان ينظر اليه من خلال تفاصيل قصص تشبه رواية سينمائية عن تدأولات اسماء الانبياء ومعانيها فيما كنت انا اكتب عن مكان عشت فيه وتعددت فيه القصص بموازاة الاسماء ، وكل قصة كانت تنتج حدثا يتعلق بصوت ومعنى ودلالة اسم النبي . فكان من حقه ان يعتمد الكتاب كسردية روائية ، ومن حقي انا ان اقول عنه انه مجموعة قصصة .وقد كان الشاعر عباس بيضون قد وعى هاجس الكتاب ومعناه حين اعطى له هذا المعنى الكبير « الأسماء بين السماء والأرض « .

سؤال صوفي

من يرى .انت ترى ما تكتب ام ما تكتبه يراك ؟

ــ كريم هذا سؤال صوفي اخترق الحوار من خاصرته .الرؤية هو انك ترى بعينيك .والرؤى هو انك تشاهد بروحك ..لهذا فأن ثمة تخادم وتبادل منفعة بينك وبين ما تكتبته ..يعني ان الذي تكتبه لايعود اليك إلا عبر المسمى الذي تضعه في مكان يكتب فيه الكتاب اسمائهم على نصوصهم .والكثير من الكتاب في مراجعات لما كتبوه يشعرون أن الذي امامهم تكونيات لها خصوصيتها وهاجسها فهي كُتبت من قبلهم نعم ولكنها الآن نصوصا مجنسة الى ذاتها وبما تحتويه حين يخرجون من نطاق ملكيتك الى نطاق ملكية الناشر ثم القارئ وقد تتحول انت الى مجرد قارئ تشعر باللذة حين تنظر كلمات الكتاب اليك وقد تشكرك أو لاتشكرك.

وفي النهاية نحن نكتب حتى نكون في مسرة الكلمات حين نعود ثانية نحاور ما كتبناه ونعيش لحظة اعجاب أو فخر وبعضهم نتاج تلك المحاورة تلك يعيد صياغة ما كتبه وقد يعتذر عن الذي كتبه ليصوب أو يصحح أو يضع هوامشا .

سؤالك يا كريم هو سؤال تفاعلي . هو انتباه الى ماهو مخفي بين الكتاب واشيائه التي يذهب بها الينا .يبيعها الينا أو يهديها الينا لتنتقل ملكيتها الى العيون الاخرى ولكن من الطبيعي أن تبقى اجفانه تلاحق الكلمات حتى وهي في رفوف المكتبات أو تعبر الحدود الى بلدان اخرى . نحن نكتب لنبقى والكتاب هو من يمثل هذا البقاء لهذا شيء من ازلية التعاطف والحب تبقى خالدة بين الكلمات وكاتبها والعودة اليها مرات وتبادليا يكون كما عودة المسافر الى وطنه والعاشق الى حبيبته والعصفور الى عشه .

قلت عن سؤالك هذا انه سؤالا صوفيا لانك لامست في رؤى السؤال أوتار العزف على اغنية يعتقدها الكاتب انها تصلح لتكون قصائدا أو روايات أو حتى طلاسماً وتعويذات وهمهمات لحظات خاصة , هذا الكون الروحي الذي يكتب حروفا ثم يبنى كلمات وكتب هو من يعتقد الكتاب فيه انه انتمائهم ليكونوا في وضع مجتمعي وحضاري خاص .وحتى يشعروا بمكانتهم فعليهم الجلوس مع منجزاتهم ويتحاورن معهم ليكتشفوا انهم حقا كانوا متميزين واصحاب رؤية ومشروع وموقف حتى في شطحته الصوفية أو الايروتيكية أو الثورة أو اي غرض ادبي وعلمي وانساني من اغراض الكتابة.فعندما قيل في الذكر الحكيم « يا يحيى خذ الكتاب بقوة . فهذا يعني أن النبوة يرسم نهجها مافي الكتاب ،وخطوات النبي لن تذهب بعيدا إلا بكتاب .

البقية على الموقع الالكتروني

*يحيى ع نبي المندائيين .والمندائيون أصدقاؤك .وعنهم كتبت اثني عشر كتابا .

هل هي ابحار في علومهم ام تخيلات افتراضية عن عالمهم .ذلك لأنهم غنوصيون ومن الصعب الأطلاع على اسرار ديانتهم أو على الاقل إنها متاحة لكهنتهم ورعيتهم ؟

ــ تحاول الديانات منذ أزليتها الأولى أن تصنع نمطاً معيناً لحياة مريديها عن طريق آيجاد آصرة من الحلم بين الخالق والمخلوق من خلال التذكير بالنهايات التي تحسمها الأفعال التي ينجزها الإنسان في حياته وأن الصلاح في النفس والحياة المرهون بزمن معين يسمى العمر ، يقابله صلاح أبدي في زمن مطلق يسمى الفردوس الذي يجتمع مع فراديس اخرى لتتكون الجنة . المندائية . وحين تسأل عن الابحار فهذا لايستطيع عدا الكهنة وبعض الباحثين والمستشرقين قد فعلوه ،فانا انظر اليها كزمن معاش خلقته البئىة والجورة والعيش المشترك والصداقة . هم اصدقائي بحميمة رائعة وحق لي ان اراقب سلوكهم الاجتماعي والروحاني فأاكتشفت أن االمندائيون واكبوا هذه الازلية .وكتبهم تعود بالأمر الى زمن سقوط حبة القمح صدفة من كف الإنسان الأول لتصير سنبلة وهم في تخيل مما كتبوا في البدء القديم تجمع سكاني بسيط .وأن أحدهم وليكن رئيس القبيلة ملك الخيال والتفكر ازاء الوجود ومتغيراته بعد أن خلف نزاع قابيل وهابيل مشاعر العداء الأول بين ذرية آدم فكانت حرب القرى ثم المدن ثم السلالات . منذ تلك اللحظات المشحونة بحب التملك والسيطرة ونشوء شوكة الملوكية وسط زهرة الإنسان ، قرر حكيم هذه الجماعة أن يجعل النأي ملاذاً .وأن يبحث عن ديباجة معينة من الفكر تصلح ملاذاً آمناً لروح الاستكانة التي حلت بفطرة عجيبة في جسد المندائي . فكانت تعاليم يحيى ع. أما قبل يحيى هل كانت هناك مندائية نقول نعم فهم كانوا كما يقولون نحن من صلب أبراهيم والأديان والأساطير وحتى أحلام القديسين لاتتكئ على شئ في الارض أنها تتكئ على السماء دائماً والمندائية هي من الأحلام القديمة التي قبل أن تربط رؤاها بنبي كان لها تصور في شكل الوجود وهذا التصور كما يدعي المندائيون ليس وليد مزاج حكيم من حكمائهم ولا هو معادلة عالم من علمائهم بل أن الأمر أرتبط بتنزيل ما وهو يرتبط بجدلية الموروث السومري وتفكيره ثم بعد ذلك أرتمى في خيال الفكرة البابلية وظهرت الالواح المندائية بشكلها النهائي بعد ما أرسى اليقين مع النبي الذي عمد عيسى وهو يحيى بن زكريا ،،عليه السلام ,,

من اجل كل مافي اعلاه كتبت عن المندائية شعرا وبحوثا تأملية وقصصا وروايات.

*جديدك عن دار الدراوبش في بلغاريا كان كتابا عن ملحمة شعرية للشاعر الفرنسي سان جون بيرس أسمها « آناباز « السؤال : من ورطك بسان جون بيرس وانت لاتُحسن الفرنسية .إنه شاعر صعب؟!

ــ سان جون بيرس الذي هو واحد من صناع الدهشة الشعرية البراقة في الشعر العالمي .فأذا كان المتنبي يكتب في المعنى فسان جون بيرس يكتب بالصورة وربما انا الكتاب الوحيد الذي كتب عنه كتابين ولم اتقن الفرنسية . قد اتقن القليل من الانكليزية والالمانية ولكنني قرأته بالعربية فقط .وتعلقت بعالمه .وحتى تعرف جمالية هذا التوريط فعليك ان تعرف جمالية الكون الذي يكتب فيه سان جون بيرس

    فهو يكتب قصائده بالمضمون الدال على شيء يكتشفه القارئ الحاذق من خلال الغوص في الأثير الخفي لتلك الصور المشحونة بعاطفة الأسرار ومدائح التبجيل للموجودات الكونية. ولكنه يتناولها بما لا يستطيع غيره، من وضع تلك الصور داخل حدود العقل والروح والإطار الكوني لنظرتنا لما يحدث.

 

    إنه يحدث الكامن العميق في الذائقة الحسية والحضارية، ولكن ليس عند جميع قرائه، بل عند الذين يقرؤونه ويعرفونه جيداً. ومع كل هذا التراث الفخم للتجربة الشعرية، التي توجها بحصوله عام 1960 على جائزة نوبل للآداب، يظل بيرس، وبعيداً عن كل لقب ومنصب، الشاعر الأكثر دهشة في إيصال ما يعتقد أن الشعر خلق في ذاكرة البشر ليقول أشياء كالتي قالها هو.

 

    عالم سان جون بيرس هو عالم الصورة المنتقاة بالإدراك الخفي؛ إنه يقول لكي يثبت أن المتوازيات بين الشعر والفيزياء هي من تنشئ النظم الأرضية العاقلة، ولهذا كان يرى في العالم الإغريقي هيرقليطس المثال الأقرب لما يتخيله في نتاج موهبة بدأت معه منذ أن عاش تلك الطفولة في جزر غوادلوب وأحس بطعم الحليب السحري من نهود مرضعاته الزنجيات.

 

    من يقرأ بيرس يثيره الخفي الذي يبتهل في داخل الكلمات على شكل مدائح وأدعية وصور، حتى تشعر أن الطاقة الكامنة في الكلمات تكاد تتحول إلى حركة لولبية لعجلة زمن تشعر به دون أن ترى ملامحه إلا في تلك الومضات الخاصة والخاطفة التي يسجلها الشاعر في تتابع الحدث الروحي لمشكلته مع الحضارة والمتغيرات والحرب، التي جاء بها النازي، لينهب ممتلكاته ومكتبته وليرغمه على أن يعيش المنفى قاباً، مثل كاهن بوذي في مكتبة الكونجرس، وليكتب لنا (مدائح وأمطار وضيقة هي المراكب) ومطولات أخرى أثبت فيها الشاعر أنه يكتب بدون شبيه، ومن يحاول أن يفهمه عليه أن يستمتع بقراءة ما يكتب، ولا يقلده.

من اجل كل هذا انا تورطت فيه.

 

*يقال انك في كل حوار معك تريد شيئا من أور .وفي قصص وروايات كثيرة في منجزك هناك شيئا من أور ؟

 

ـــ أور هي المكان بالنسبة لنا .والمكان هو الذاكرة .والذاكرة وقود الكتابة .والكتابة وقود السعادة واثبات الوجود .ومادام الولوج الى جنة دلمون يبدأ من فتحة قبو ملكي في مقبرة أور الملكية فان التعلق فيها له مسبباته روحا وتضاريسا وذكريات . فانا اعتبر أور بئر يقظة لأبنائها يعودون اليه كلما شعروا بالحنين والظمأ وانها هاجس يصنع فيك بهجة ان تحب المكان كمدينة زقورة وأثر وتحبها ايضا كوجود يمثلك بجنوبيتك  ومنجزك وهويتك العراقية .وكأنها تؤنس في ظهاري الحر والقيض أو تلك التي يجمدها برد شتاء المناطق البرية والقاحلة ، تؤنس اؤلئك النائمون منذ ازمنة العهود المجيدة الغابرة حيث لم يبق في المكان سوى الاطياف ، أما المقتنيات والتوابيت والقيثارات فقد تم سلبها كلها من قبل البعثة الاثارية التي ارسلتها جامعة بنسلفانيا الامريكية العالم السير ليوناردو وولي والآثاري ماكس مالون زوج الروائية الشهيرة ( أجاثا كريستي ) .

حملوا معهم وبمساعدة من امرأة الاستخبارات البريطانية في العراق المسس بيل وبصناديق كبيرة كل المقتنيات الثمينة والكنوز التي لا تقدر بثمن والتي وجودوا اغلبها في مقابر المدينة المقدسة واقبية الموت النذري.

ومنذ انتهاء زمن البعثات الاثرية بقي المكان يعيش اهمال متعمد حتى مع اشارة وولي التي صرخ فيها هنا ولد ( ابراهام النبي ) مما منح المكان في الأونة الاخيرة اهمية بالغة وخصوصا للعالم المسيحي الذين يعتبرون البيت الذي ولد فيه النبي ابراهيم الخليل محجا.

وغير البعثات الاثرية كالحجيج ، كانت السفرات المدرسية مؤانسا رائعا لوحشة المكان وخبر سعيد للثعالب عندما تجيء سيارات الفولفو والدوج الخشبية وهي تحمل تلاميذ وطلبة السفرات المدرسية التي كان ينظم معظمها أساتذة مادة التاريخ ، وما أن تتحرك السيارات راجعة الى الناصرية أو السماوة ومدنهما القريبة حتى تخرج الثعالب لتبحث عن فضلات الاكل الذي يتناوله التلاميذ اثناء السفرة واغلب ما يتبقى هو فتات خبز وأوراق بصل وفجل وقشور بيض مسلوق ، لكن سعادة تكمن في ما يتركه اعضاء الهيئات التعليمية والتلاميذ الاغنياء من طعام عندما يكون اغلبه عظام وبقايا لحم دجاج مشوي أو مسلوق .

تلك هي أور ولذلك هي معي دائما.

 

*هناك مقولة لفلادمير لينين تقول « ينبغي لنا أن نحلم « أي ما كان يقصده هو صناعة الحياة من خلال تحيقيق احلامها ..

نحن نحلم .ولكن الى متى .؟ السؤال عند الكاتب ، هل الحلم يوقظ الواقع أم العكس ؟

ـــ نعم نحن نحلم لنكون .والحلم قبل ان يكون طيف ليل هو عناوين لمشاريع ورغبة حياة . فبدون حلم حاضر أو غيبي أو تتمناه لن تستطيع ان تمتلك الهاجس والدافع . وفي تقدري ان الحلم والواقع ثنائية لمرادفات وافعال وهواجس واحدة فحتى تصنع واقعا جيدا لحياتك عليك ان تحلم لتحقق ما تتمناه .وكذلك حين يناى الواقع ويصمت لخيبة أو ظرف ما ياتي الحلم ليوقظه ويصنع فيه الاصرار والعزيمة.

في الكتابة الحلم بعض من عزائم التأليف والدافع القوي لتكمل ما تتمنى ان تنجزه . وبسببه نستطيع ان نتملك الرغبة لنكمل ما اردنا انجازه ..واظن ان القصيدة مع الاحلام تستطيع ان تبني موقفا وتصنع حبا وكذلك الرواية وبقيه الابداعات حتى العلمية منها .فلولا رغبته بأسعاد البشرية لما حلم توماس اديسون بأنارة العالم بالمصابيح الكهربائية . فمرة سألوني كيف تستعد لكتابة روايتك .قلت :انتظر الحلم أولاً .قالوا تقصد حلم الليل ؟ قلت :كلا ،حلم تخيلي انني كتبتها.

 

*آخر منجزك القصصي الذي ظهر قبل أيام عند دار السرد للتوزيع والنشر في بغداد هو مجموعتك القصصية « كان أسمها  ( قيمر ) « هذا عنوان مغرٍ يقول لنا مثلما أور معك دائما .فالأهوار أيضاً .

 

ــ أبقيت الأهوار معي لأنها في وضع بائس ولا يمكن التخلي عنها فقد كانت بالنسبة لي في يوم ما دلمون التي نفترش في ليلها احلامنا ونسمع أم كلثوم ونجاة وداخل حسن ثم نرسم خطاً أفقياً صوب أماني السفر الى اوربا وتقبيل خد برجيت باردو . وهي ذكرى أزمنة ايام كنا معلمين وأجمل رسائل الحياة لدينا أن نزرع كلمة دار القراءة الخلدونية في دهشة اطفال يأتون الى المدرسة حفاة وببالطوات ممزقة .ومن يعيش في الأهوار عليه أن يكون وفيا للمكاان .وجزء من وفائي أني كتبت من اجله الروايات والافلام والقصص والمقالات ولدي كتاب لم يطبع بعد فيه 500 حكاية عن ذلك المكان .كما اني اصدرت مجلة اسمها الأهوار .وكتابي الجديد كان اسمها « قيمر « هو من بعض الوفاء .ولغة الكتاب هي استذكارات ووصف جغرافي وطوبغرافي وروحي للمكان وأهله.

 

*واخيرا عليك أن تختصر هاجس اسئلتي واجوبتك بخاطرة تصف فيها هذا الحوار ؟

ــ أنت كريم في تورينتو وأنا في دوسلدورف والنقطة الساحرة التي نلتقي عندها هي الناصرية مرتع اجمل ذكرياتنا معا .لهذا لايصح علينا هذا البيت الشعري :إنا غريبان ها هنا   وكل غريب للغريب نسيب..كانت الأسئلة ممتعة .ولكن اجوبتي حاولت ان تكون ممتعة لكن الحزن والاحلام وأغلفة كتبي ال 6 التي اصدرتها هذا العام ربما جعلت المتعة لها عدة قلوب والوان وقبلات.. شكراً لك


مشاهدات 43
الكاتب كريم الزيدي
أضيف 2025/08/16 - 11:18 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 1:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 69 الشهر 11682 الكلي 11406768
الوقت الآن
الأحد 2025/8/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير