قنديل الأدباء
حسن النواب
قبل إثني عشر عاماً؛ أذكرُ أني قد انتهيت من تناول فطوري الرمضاني؛ وبدأت أدِّخنُ بنهمٍ على غير عادتي؛ حالما فتحت صفحتي على الفيس بوك، ليتني ما فتحتها؛ ظهرت أمامي صورة قنديل الأدباء القاص العذب عبد الستار ناصر، كانت صورته الوديعة والحانية مرفقة بسطورٍ قانطةٍ كأنها مضرَّجة بالدمع، كتبها صديقنا وارد بدر السالم يعلنُ فيها عن رحيل حفيد الطاطران في أحد مشافي كندا. لا يا وارد تعوَّدتُ أنْ أقرأ على صفحتكَ سطوراً تمطر عشقاً وغزلاً في الأنثى، ماذا دهَّاك اليوم؛ كيف ضغطت على الحروف التي نقلت إلينا هذا الخبر الرمضاني المفجع؟ شهقتُ باغتمامٍ لا لالا، فتنبَّهت زوجتي الى صيحتي وهي تضع كفها على قلبها فزعة وقد تفاقم ارتباكها من بكائي المباغت. نهضتُ كالمهزوم وأنا ألهجُ بصوت مخنوق لقد خبتْ شمعة القصة العراقية؛ حنانيك يا إلهي. تركتُ المنزل كمن يبحث عن شيء فقدهُ ولا يمكن العثور عليه؛ لأعود متهاوياً على سريري مثل كومة رماد؛ لاحتْ أمام ناظري صورة حفيد الطاطران حين التقيتهُ لأول مرة في نادي الأدباء مطلع الثمانينيات، كان عذباً ورقيقاً؛ حدّ أنَّ وسامة روحه وتواضعه ونبرة صوته أرغمتني على الارتباك؛ فيما كانت ابتسامتهُ الجذلى تمطر عنادلَ وفراشات وزهر قدّاح وماء وردٍ من ملامح وجهه المضيء بحزن عميق. ياه يا أبا عمر؛ يتراءى في خاطري الآن ملاك الموت الذي سلب روحك، كأنَّهُ بوجهٍ عابسٍ ويعضُّ على شفتيهِ ندماً؛ لأنَّهُ كتم على آخر أنفاسك بيديه المتوحشتين، أجل يا أرقُّ المهذبين وألمع الساردين؛ إنَّ طائر الموت الأعمى يشعر بالأسف؛ لأنَّهُ انتزع روحك المزهرة كروضة فردوس من واحة جسدك الخصيبة، روحك التي تشبه طفلاً في يوم عيد، أعرف أنَّ جثمانكَ البغدادي الجميل مازال ينامُ في مقبرةٍ كندية، لكنَّ روحك بعنفوان طفولتها عرَّجتْ إلى أعالي السماء تحفُّ بها قطعان من نوارس دجلة وغابة من نخيل العراق، ها أنا أبصر عند بوابة السماء أصحابك الطيبين يقفون بلهفة لاستقبالك؛ يتقدَّمهم محمود جنداري، بينما نزيف الدمع كان سخيناً على غيابك في نادي الأدباء ومقاهي حسن عجمي والبرلمان في بغداد، والسنترال في عمَّان، وأزقة الميدان وبيوتات البتاوين، محلَّة الطاطران شقَّتْ ثوبها البغدادي المبتل بعرق الكادحين والمطرَّز بغصون الأسى والحرمان، مثلما ناحتْ بمرارةٍ على روحك الشفيفة يا قنديل السرد العراقي وألمع الأدباء قلعة أربيل وجبال السليمانية والجسر العباسي في دهوك ومنارة الحدباء في الموصل والنار الأزلية في كركوك وبرتقال ديالى وبلابل بهرز وخيول تكريت وغزلان صحراء الرمادي وفواخت الحلَّة وحمام الحضرة في كربلاء ودرّ النجف ومضايف الديوانية ومهاويل السماوة وأغاني داخل حسن في الناصرية وسدَّة الكوت ومشاحيف العمارة ونخيل البصرة ونصب الحرية وجدارية فائق حسن وساحتي الطيران والأندلس، هاهي مدوّناتك التي سطّرها يراعك الشجاع ترفرف وتهدل بالنحيب فوق نعشك كحمامات بتول، سوق السراي وباب القشلة والحكواتي ونصف الأحزان والشمس عراقية؛ كلها تسطع بضيائها على روحك المخضَّبة بالحنين إلى ثرى بغداد، بغداد التي ضرَّج الدمع شناشيل أزقتها ومسارحها وأرصفة شوارعها ونُصبها وحدائقها وأماسيها الأدبية، حتى المقام العراقي أنشد لحن الصبا الحزين حداداً على رحيلك الخاطف، وحين وصل نبأ غيابك إلى أهوار الجنوب؛ اهتزَّ القصب والبردي من الكمد وأطلق شجن المواويل من نايات روحه التي ازدحمت بشهقات الكادحين، الكمنجات وعازفيها قانطة ولوحات الرسامين غطّتها ألوان السواد، وخطاك على جسر السنك يوم كنت تعبرهُ صباحاً إلى غرفتك الوديعة في وزراة الثقافة كأني أسمعها تهتفُ وداعاً يا حفيد الطاطران، أبناؤك عمر وياسر وناصر؛ ترُى أية وحشة تسوّرهم في مهجرهم البعيد، وهل يا ترى اشتاقوا لزيارة قبرك الآن؛ وأية أحزان ضريرة وارتباك مرير واستغاثات مجنونة تتخبَّط في قلب زوجك القاصة هدية حسين حين تسترجعُ ذكراك، يااااه لقد دفنت بعيداً عن حبيبتك بغداد أيها الولد السبع. ها أنذا أقرأ سورة الفاتحة على روحك الطيبة في كل صباح ريثما نلتقي أيها الجميل؛ لقد تعبتُ يا صديقي الحبيب، وما عاد بوسعي مواصلة الكتابة، لقد غلبني الدمع واختنقتُ بالشهقات.