الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ثلاث لوحات إحداها لبغداد في شتيرن

بواسطة azzaman

ثلاث لوحات إحداها لبغداد في شتيرن

ضرغام الدباغ

 

تجمعت لدي عبر سنوات طويلة مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية، كنت خلال زياراتي للمتاحف العالمية أحرص على شراء مصنفات (Catalog) لأهم أعمال تلك المتاحف، أما المتاحف التي لم يتسنى لي الوقت والفرصة لزيارتها وهي قليلة، وأهمها متحف الفن الحديث في نيويورك / الولايات المتحدة الأمريكية، فكنت أراسلها للحصول على تلك المصنفات، ويصلني بعضها على شكل شرائح ضوئية، أو ملفات مطبوعة.

ومن البديهي أن أميل نفسياً ومزاجياً لبعض تلك الأعمال الخالدة، قبل قيمتها الفنية، ولكن إذا ما تحقق الأمران معاً في لوحة واحدة، فسيكون أثرها كبيراً. ومن بين تلك الأعمال الكثيرة والتي أستغرب عدم أنتشارها في وطننا العربي، وبعض الناس لم يسمعوا بها، ويجهلون وجودها، مع أن بعضها من عمل فنانين كبار (أساتذة)، وأخص بالذكر ثلاثة من هذه الأعمال :

الأولى : هي لوحة بعنوان (موت ملك) أنتجها الفنان الفرنسي الكبير يوجين ديلاكروا 1863-1798  (Eugene Delacroix) وهي بحجم 331 X 270 تصور انتحار الملك البابلي ساردانبال، وهي من موجودات متحف اللوفر بباريس.

الثانية : هي لوحة بعنوان (الخليفة الرشيد يستقبل سفراء الامبراطور كارل) هي من عمل الفنان الألماني الكبير يوليوس كيكارد 1827 ـ  1918 (Julius Koeckert)، وهي بحجم  419 X 243من موجودات متحف مكسميليان في ميونيخ بألمانيا.

الثالثة : هي لوحة رائعة لمدينة بغداد عام 1900، نشرتها مجلة شتيرن الألمانية (Stern) وهي من كبريات المجلات الألمانية والعالمية، تصدر في مدينة هامبورغ، وقد بذلت جهود كبيرة لمعرفة رسامها، وتاريخها، ومستقرها دون جدوى، فسيسجل هذا العمل لمجهول حتى نكتشف الفنان الذي أبدعها ذات يوم.

اللوحة الأولى :

موت ملك : يوجين ديلاكروا

(Eugene Delacroix)

كان ساردانبال آخر ملك آشوري في بابل، وقد تآمر ضده قائد جيشة الميدي، سعياَ إلى انتزاع العرش. وحدث ذلك في وقت من السنة كانت فيه مياه نهر الفرات قد فاضت حتى بلغت إرجاء قصره فساهمت مع المتآمرين في تعجيل سقوطه .

وعندما أدرك الملك ساردانبال عدم جدوى القتال والمقاومة وإراقة الدماء، قرر الانتحار مع زوجاته وحاشيته. وقبل ذلك قتل خيوله الاصيله وكلاب الصيد النادرة، ثم سكب العطور والمشروبات الكحولية على عرشه وأضرم النار في نفائسه وأعز ما يملك، وجلس بكل كبرياء في شرفة قصره المطل على نهر الفرات وحدائقه الغناء، منتظراَ أن يتصاعد اللهب ليجلب الموت الذي ارتضاه .

ترى هل كان ساردانبال رجلاً تحجرت فيه عواطفه ...؟.. أم ترى انه اختار نهايته على هذه ألصوره كإنسان أختار نهاية شاعرية رومانسيه، وليس كملك يفكر حتى أخر لحظه بالسلطة والسلطان ؟

هذه الرؤى حركت خيال الرسام الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798–1863) فحولها إلي لوحه شهيرة تحمل اسم (موت ملك) التي يصفها بعض النقاد بأنها من أجمل أعمال ديلاكروا مع رائعة أخرى له هي (الحرية تقود الشعب).

وهذه اللوحة الرائعة والتي هي بحجم  395x495 رسمت عام 1827 بالزيت على قماش الكتان، هي اليوم من روائع متحف اللوفر بباريس. وهي تصور الملك الآشوري / البابلي ساردانبال وهو يجلس على عرشه بكل كبرياء يتطلع  بشجاعة ممزوجة بالعطف إلي قتل نسائه وخيوله. انه لمنظر يصور الجمال والنعومة والوحشية في آن واحد

ساردانبال الإنسان كان قد قرر أن لا يسقط هذا الجمال ضحية للعدوان والوحشية، وكذا نفائسه غنيمة بيد المعتدي، ساردانبال وهو الفارس الشجاع،  المحب للسلام والمبغض للحروب، ليس بسبب التخاذل آو الخوف، ولكنها الشجاعة النبيلة أملت الموت حرقاَ محتضناَ اللهب. على هذا النحو أراد ديلاكروا آن يعرض اللحظات الأخيرة من حياة الملك ساردانبال......

الموت محترقأ مع النفائس والجمال .

فقد سأل صحفي مرة الكاتب المسرحي الشهير جان كوكتو:  ماذا تفعل إذا شاهدت دارتك الجميلة بكل ما تضم من كتب رائعة ولوحات أصيله أهداها لك أصدقاؤك الفنانون، وكذلك تحفك الثمينة، وقد شبت النيران في كل ذلك ؟

فأجاب كوكتو على الفور: إذن احتضن ذلك اللهب الرائع بين ذراعي .

وهكذا قرر الملك ساردنبال ... أن لا يدع الجمال غنيمة العدوان، وأن لا ينال المعتد الجمال كمكسب لعدوانه ...... هل كان ساردنبال محقاً في قراره ...؟

اللوحة الثانية :

مبعوثي وكارل الكبير في بلاط هارون الرشيد ببغداد

يوليوس كيوكيرت   Julius Köckert

تشير المصادر التاريخية أن الوفود والسفارات المتبادلة، بين قصر الخلافة العباسي وامبراطورية كارل الكبير وعاصمته مدينة آخن، كانت متواصلة، تضمنت محادثات سياسية، إلى جانب تبادل الهدايا التي عكست ليس مستوى العلاقة فحسب، بل وأيضاً طبيعتها التي تعكس التطور العلمي والتكنيكي لللامبراطورية العربي / الإسلامية.

وعلى صعيد العلاقات السياسية، فقد كان للطرفان خصوم مشتركين، متمثلاُ بالدولة البيزنطية، وتقاسم النفوذ في البحر المتوسط الذي كان منذ القرون قبل الميلادية، يعد بحر التجارة بأمتياز. بيد أننا لم نعثر على ما يعزز هذه النبأ أو ينفيه، على أن المصادر الألمانية ترجح وجودها، لكن الأمر يبقى دون إيضاحات كافية.

وكانت الدولة العربية الإسلامية ونظام الخلافة قد أزدهر في العصر العباسي الوسيط، ابتداء منذ عهد الخليفة هارون الرشيد الذي مثل عصره فترة التألق، ليس للخلافة العباسية فحسب، بل وللحضارة العربية الإسلامية بأسرها، ومن مؤشرات هذا الازدهار، رخاء اقتصادي، وتعميم للثقافة، ساهم في ذلك توصل العرب إلى صناعة الورق، التي نقلت تقنياتها من الصين، فعمت صناعته في المراكز العربية، ومن ثم ازدهرت الثقافة بصفة عامة.

وكان الأمير هرون الرشيد (قبل أن يستلم الخلافة) قد قاد حملة عسكرية كبيرة على الإمبراطورية البيزنطية(779 ـ 781) التي ما انفكت تناكف الدولة العربي الإسلامية وتهاجم مدن الثغور، وتلحق الأذى والأضرار بالمواطنين وممتلكاتهم. فلما تقدم الأمير الرشيد في أراضي الدولة البيزنطية، ملحقاً بهم الهزائم، حتى بلغ مدينة القسطنطينية(استانبول الحالية)، ذات الطبيعة الجغرافية المعقدة، والأسوار الحصينة المنيعة. فحاصرها، فعرضت الملكة أيرني Irene  ملكة البيزنطيين الصلح.

قبل الأمير هارون الرشيد الصلح ولكن بشروط وضعها بنفسه، شروط صعبة ومرهقة سياسيا ومالياً. وكانت كما يلي: ـ

1 . أن تدفع الملكة أيرني أتاوة سنوية قدرها  90 ألف و70 ألف دينار على دفعتين، في نيـسان  وحزيران.

2 . أن يحمل رسول من ايرنا الهدايا إلى الخليفة المهدي.

3 . تسليم كافة الأسرى المسلمين.

4 . أن تقدم الملكة أيرني الأرزاق على الجيوش الإسلامية لتسهيل عودتهم إلى بلادهم.

5 . مدة الصلح ثلاث سنوات.

أما في البحر، فقد تقاسمت الدولة العربية الإسلامية الهيمنة على البحر المتوسط، إذ استولت البحرية العربية على الكثير من جزر البحر المتوسط: قبرص، كريت، رودوس، صقلية، سردينيا. وقد ظلت بعض هذه الجزر مئات من السنين تحت السيادة العربية الإسلامية.

وجدنا من خلال البحث والتتبع للآثار الثقافية على الحضارة الأوربية كم من الصعب حصر، هذه التأثيرات والبواعث الثقافية على كافة الأصعدة. وإذا كان بعضها معروف للقراء والمثقفين العرب، إلا أن كماً غير يسير منها مجهول حتى للمثقفين، بحكم انتشارها في متاحف ومكتبات عديدة متناثرة.

والرسام الألماني يوليوس كيوكيرت، أحد المبدعين الذين سجلوا (فنياً) هذه الاتصالات(1864) وقد عثرنا على هذه اللوحة النادرة التي تمثل الخليفة هرون الرشيد جالساً على كرسيه في بلاطه يستقبل رسل الملك كارل الكبير، واللوحة هي اليوم أحدى الموجودات الرائعة لمتحف مكسمليان بميونيخ في ألمانيا الأتحادية. ويصف عرش الرشيد بالفخامة والسجاد الفاخر وروائح المسك والعنبر، وبالأطعمة الشهية.

كما وجدنا صدفة، لوحة نادرة أخرى، للأسف بدون أسم مبدعه، تمثل رسل هارون الرشيد وقد وصلوا بلاط الملك كارل الكبير في مدينة آخن (قرب مدينة كولن بوسط ألمانيا) ومعهم هدايا أخرى عدا الفيل، مثل البسط، والزجاجيات، والعطور والسيوف والأقمشة، وكل هذه كانت صناعات عربية فاخرة، وكان ملوك أوربا يعتزون بحيازتها. ومن بين هدايا الرشيد للملك كارل الكبير: إسطرلاب شهير عد في حينه من نفائس الاختراعات وقد وجدنا صورة نادرة لهذا الأسطرلاب.أخيراً وجدنا بحثاً أعده باحثان ألمانيان تضم تفاصيل عن رحلة كبعوثي الملك كارل إلى بغداد والعودة، يمكن أن تمنح فكرة تزيد الصورة وضوحاً للأحوال السياسية وحالة الطرق ومفردات سياسية، وشيء من طبائع البشر ! ففي العام 797 بعث الملك كارل الكبير(شارلمان) ملك الفرانكيين(الفرنج)، المبعوثين إلى هرون الرشيد في بلاطه ببغداد بهدف تحسن العلاقات. عرف منهم ثلاثة: لانتفريد Lantfried، وزيجزمزند، Sigsmund كمبعوثان، واليهودي أسحاق Issak كدليل، والذي عمل  مترجماً بنفس الوقت.

 

ولا تتوفر معلومات كثيرة عن رحلة الذهاب. ففي شمال إيطاليا التقى الركب الفرنكي مع الكونت جبهارت فون تريفيزوGrafen gebhard von Treviso الذي قرر بنفس الوقت أرسال مبعوث منه إلى القدس، وهناك، في القدس افترقت الطرق، فيما واصل لانتفريد وزيجزموند وإسحاق طريقهم صوب بغداد. واستغرقت السفرة والإقامة في عاصمة الرشيد عاماً كاملاً، تبادل فيها الطرفان الهدايا والمفاوضات السياسية قفل الفرنكيون عائدين إلى وطنهم. ومن ضمن الهدايا التي أرسلها الخليفة الرشيد إلى كارل الكبير، فيل (أبيض ؟) ، وحسب المصادر الأوربية، فإن هذا الفيل الأبيض كانت رغبة الملك كارل الكبير.

اللوحة الثالثة :

الناشر مجلة شتيرن (Stern)

في إحدى أعداد الربع الأول / 2003

هذه اللوحة الجميلة لبغداد نشرتها مجلة شتيرن الألمانية، وأرجح أنها لإحدى الرحالة الذين مروا في العراق في تلك الأزمنة، ولم يكن عددهم قليلاً، ورسم هذه اللوحة وأعتقد أنه رسمها من ضفة الكرخ مقابل الرصافة في منطقة ما بين الجسرين : الشهداء والأحرار.

لم أوفر جهداً في البحث عن مبدع هذه اللوحة، ولكن جهودي ذهبت سدى، وأنا أرجح أن رسامها هو باحث رحالة أكثر من كونه رسام محترف، ذلك أن الرسم يوضح الملامح العراقية بدقة، ثم يهتم بملامح إنسانية واجتماعية واقتصادية .

والرحالة السابقون وإن كان التصوير الفوتوغرافي في بداياته، إلا أن الرحالة كانوا يعمدون إلى رسم ما يشاهدون بأقلامهم وريشهم، لذلك فهم كانوا على درجة طيبة من حرفية وتعامل مع الموضوع والشكل. وفي هذا المجال ترك لنا الرحالة أعمال كثيرة عراقية وغيرها عربية، تركزت في فلسطين على يد الرحالة / الحجاج إلى المناطق المسيحية المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة، وكذلك إلى شمال أفريقيا ومصر، وبذلك حصلنا على صور نفيسة، تصور معظمها بدقة ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية كما في هذه اللوحة العراقية.

وفي أوربا نفسها لم تكن صناعة المطابع قد بلغت هذه الدرجة من الرقي والتقدم، فكانت المطابع الحجرية توفر لوحات وصور جميلة، تعامل اليوم كأنتيكات غالية الثمن، في حين كانت حتى خمسين أو أربعين عاماً خلت متوفرة بأسعار بسيطة.


مشاهدات 124
الكاتب ضرغام الدباغ
أضيف 2025/07/30 - 1:58 AM
آخر تحديث 2025/07/30 - 8:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 735 الشهر 20732 الكلي 11174344
الوقت الآن
الأربعاء 2025/7/30 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير