هل بلغنا هلاك القرى في ضوء القرآن
محمد صالح البدراني
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾
احذروا فقد حق القول
ليست هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء مجرد تقرير لحكم إلهي، بل هي بنية تفسيرية عميقة لحركة المجتمعات وسيرورتها نحو الانهيار، إذ تتحدث بلغة موجزة عن سنة كونية لكل تجربة بشرية آيلة للسقوط إنها لا تشرح العذاب، بل تشرح السبب؛ لا تتحدث عن القوة المدمرة، بل عن لحظة الانهيار التي تصبح فيها القرية عبئًا على ذاتها (والقرآن يصف القرية عندما يتفق أهلها المتنفذين على ما يوجب العذاب ويصمت الناس عنه أو لا ينكروه)، حين تفقد توازنها الأخلاقي والمعنوي.
النص – لمن يتأمله – لا يتحدث عن هلاك كعقوبة منفصلة تصدر فجأة، بل عن سيرورة لصيرورة داخلية، منطقية، تبدأ من تخلخل داخلي وتصل إلى نقطة الانحدار، ثم الهدم.
بين "أمرنا" و"أمرهم": الفعل لا يعني التكليف
قراءة لفظ "أمرنا" في هذه الآية كما لو كان قضاء من الله، أي كأن الله يقول: أمرناهم بأن يفسقوا خطأ كبير فهذا ما لا يستقيم مع العدل الإلهي ولا مع سياق الآيات ولا مع لغة العرب؛ فاللفظ هنا لا يعني التكليف، بل التمكين، أو الإمهال، أو الإغراق في النعمة، أو الكثرة لان الفساد يتوالد؛ بمعنى: بلغ المترفون من القوة والانتشار والتمكين عدد وعدة والسطوة درجةً صار فيها الفسق ليس مجرد حالة فردية بل ظاهرة متعايش معها، كمؤسسة، مُبرّرة، لها شرعيتها وهنا توصف الدول والمدن بالقرية؛ هو اختبار وليس قضاء محتوما فنحن في اختبار للمنظومة العقلية والشجرة حاضرة دوما ومحرمة.
الفاسق – في المفهوم القرآني – ليس الجاهل، بل العارف المائل للفساد وهذا هو أخطر أنواع الفسق: حين يعرف المترف أن سلوكه مخالف للحق، بل هو نمط من الخروج الواعي عن القيم التي يزعمها، عن التوازن، عن العدالة. لكنه ماضٍ فيه لأنه متاح وميسر، الفسق هنا لا يعني فقط ارتكاب المعاصي أو ناتجًا عن فقر في المعرفة أو فقر مال، بل عن طغيان في الإرادة، وخلل في الضمير الجمعي، وتآكل في البوصلة.
وصف الآية يبدأ بالمترفين، لأنه يقوم على الأنا، على إقصاء المعنى، على تقديس المتعة. المترف في بنية النص القرآني ليس ثريًا فحسب، بل هو ابن المنظومة التي جعلت من المال والسلطة معيارًا للنجاح، ومن اللذة قانونًا أعلى من الحق.
والمترف حين يُمكّن، يُفسد، ليس لأنه شرير في ذاته، بل لأن الترف يقتل المناعة الأخلاقية. الفسق هنا ليس خرقًا فرديًا، بل انقلاب جمعي على المعايير: يعرفون الحق ويتكلمون به ويخالفونه؛ يعرفون العدالة ولكنهم يبررون الظلم، يعرفون الفساد ولكن تعريفه عندهم اختلف فقد أصبح الاعتداء على نصيبهم من الغنيمة فالأمانة باتت مغنم، يعرفون الله ويزعمون عبادته، بل يبررون سحق الإنسان باسمه.
عند هذا لم تعد النخبة تعبر عن مشروع حضاري، بل عن جشع ذاتي منغلق، تتحول فيه أدوات القوة (الثروة، الإعلام، القرار) إلى قنوات لخلخلة الأسس التي قامت عليها الجماعة هنا تتلاقى هذه الرؤية مع تحليلات ابن خلدون عن العصبية ونهاية الدولة، ومع الفلاسفة المعاصرين الذين يرون أن النظم تموت حين تفقد المعنى، لا حين تُغزَى من الخارج.
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ:
"حقّ القول": عندما يصبح الانهيار حتميًا "فحقّ عليها القول" ليست حُكمًا مباشرًا، بل تقرير بأن شروط الانهيار أصبحت مكتملة، الدولة حين تفشل في تصحيح مسارها، وتنتج نخبتها من الفساد بدل العلم، وتخون فيها القوانين وظيفتها لحماية المصلحة العامة، تدخل في منطق السقوط الذاتي، حيث لا يصبح الخارج سببًا بل نتيجة العدل الذي يتنزل في صورة نهاية حين يصل الفسق إلى مرحلة الهيمنة، لا يبقى في القرية من يقاوم المنظومة، بل تنقلب المعايير؛ يُهاجَم المستقيم، ويُسخَر من العدل، بل تستخدم أجهزته في الظلم عندها فقط، يحق القول: لا لأن الله انتقم، فانتقام الله حساب الآخرة؛ بل لأن الشروط اكتملت وبُنى النسيج المجتمعي تهشّمت فالقيم التي تحفظ بقاء الإنسان تم سحقها تحت أقدام المترفين، ولأن القرية صارت خاوية من عوامل البقاء فـ"القول" هنا هو حكم القدر بسنن الكون الذي يحدث حين تكتمل شروط الفساد عن إصرار وعلم وبتمكين.
فدمّرناها تدميرًا:
من الكفاءة إلى الولاء، من القانون إلى الشطارة، من البناء إلى الترقيع، من النقد إلى التبرير السقوط هو نتيجة لانهيار الوعي والمعيار الصمت الجمعي: شراكة في الخراب حين يسيطر المترفون، لا تكون مسؤوليتهم وحدهم هنالك صمت مجتمعي، وخوف مثقفين، ومخدرات إعلامية، ومؤسسات تعقد حياة المواطن بدل تسهيلها، والضرائب غرامات، حتى يصبح الفساد عرفًا، والتفاهة ذكاء، والطائفية هوية، هنا يتحول الانهيار من خيار إلى حتمية.
طريق النجاة: السقوط يبدأ بفساد النخبة، والنهضة تبدأ بإعادة بناء النخبة على أسس العلم، والنزاهة، والإخلاص العام، لا على روابط هابطة ذكرناها أو الولاء للفساد، الدولة لا تقوم بالفوضى ولا بالشعارات، بل بقانون يحمي مواردها لا ينهبها، وولاء لمفهوم الوطن لا لأشخاصه، ونخبة تُختار بالكفاءة لا بالمحسوبية، لابد من حماية إدارة الدولة وبنائها بالمخلصين ومخرجات مراكز الدراسات.
الخاتمة: الآية ليست خبرًا عن الماضي، بل قانونًا مستمرًا. إنها ليست عن ثمود أو عاد فقط، بل عن كل قرية والعبرة أن الإهلاك لا يُبتدأ من السماء، بل يُصنع على الأرض حين تُترك مفاصل القوة بيد المترفين، فحينما يُسمح للفسق أن يكون رؤية وليس جرما منكرا يبدأ الهلاك.