المواطن الصامت
فيصل عبد الحسن
يذكر المؤرخون أن فترة الخلافة العباسية في عهد الهيمنة السلجوقية عليها أسس العراقيون دولة بني أسد في الحلة، التي بدت للدارس كأول محاولة من العراقيين للاستقلال والتخلص من النفوذ السلجوقي الأجنبي الذي كان مسيطرا على مقدرات بلادهم، وأسس الحليون عاصمتهم الجديدة، التي أسموها(الحلة السيفية).
وعند انحسار حكم السلاجقة، ونهاية أمارة بني أسد، جاء على لسان ابن الأثير:" وفي هذه السنة أمر الخليفة المستنجد بالله العباسي بإهلاك بني أسد أهل الحلة المزيدية لما ظهر من فسادهم، لما كان في نفس الخليفة منهم من مساعدتهم السلطان محمد لما حاصر بغداد، فأمر يزدن بن قماج بقتالهم وإجلائهم من البلاد، وكانوا منبسطين في البطائح واللوير فلا يقدر عليهم أحد."
المعارضة السياسية
وهنا تبرز أهمية أهوار وبطائح العراق في حياة القبائل العراقية واضحة لكل مؤرخ عن تاريخ العراق وحركاته السياسية، إذ كانت الوسيلة الإستراتيجية للدفاع عن وجودهم كمعارضة سياسية فهي تعلن من فوقها سيادتها على أرض العراق، ولذا فإن تلك الحرب لم تنه وجود قبيلة بني أسد في العراق، فقد تسللت عشائرهم عبر تلك البطائح وانحدرت إلى بطائح وأهوار جنوب العراق واستقرت هناك ".
وبنهاية حكم المستعصم بالله العباسي، آخر الخلفاء عام 656ه ودخول المغول أسوار بغداد من عدة ثغرات أحدثوها في الأسوار ووصف ابن الأثير ذلك وصفا مؤثرا فقال:" أن هولاكو استقبل الخليفة ومن معه بكلمات طيبة، وأمر أن تنصب خيام خاصة له ولأولاده الثلاثة في معسكر كتبو غانويان، وبعد ذلك دخل هولاكو بغداد، وذهب ليشاهد قصور الخليفة، ثم أمر بإحضار الخليفة، فحضر مع جمع من العلماء والأعيان، ويقال بأن الخليفة هم أن يقدم الهدايا إلى هولاكو، ولكن من شدة ارتباكه لم يهتد إلى مفاتيح الخزائن، فأمر بكسر الأقفال، وأخرج لهولاكو مجموعة كبيرة من الجواهر والدرر والنفائس فلم يهتم هولاكو بها، وأمر الخليفة أن يخرج ما كان مدفونا تحت الأرض، فزاد ارتباك الخليفة، الذي كان يرتعد من الخوف واعترف بوجود كنز مدفون في حوض وسط ساحة القصر.
الكنز تحت الحوض
وبعد أن حفروا المكان، الذي أشار إليه، عثروا على الكنز المملوء بقطع الذهب الخالص، وقد كانت كل قطعة منه تزن مائة مثقال، فسأل هولاكو الخليفة العباسي، لماذا لم تعط هذه الأموال لشعبك لكي يدافع عن عرشك، فارتبك الخيفة ولم يحر جواباً، وبعد ذلك أمر هولاكو بعزل النساء اللواتي باشرهن الخليفة وأبناؤه، فكن سبعمائة امرأة أخرجن مع ألف وصيف وخادمة، حيث قتل المستعصم وأولاده في الرابع عشر من صفر سنة 656 هجرية" وقد وصف بعض المؤرخين مصرع الخليفة أنه كان دعسا بحوافر الخيل بعد أن وضعوا في شوالات وتم ربط فتحاتها العليا، لأن هولاكو كان يخشى من لعنة قتل الملوك وأبنائهم بالسيف حسب العادات المغولية !
العراقي الخانع
ما أشد ظلمة أحداث العراق بين سقوط الدولة العباسية وسقوط الدولة العثمانية" وهي فترة من أشد الفترات التاريخية ظلاما وعبوسا، يضيع في نسيج أحداثها الباحث والمؤرخ، لكثرة الأحداث، والتبدلات السياسية السريعة أولا، لقلة المصادر حول ما حدث ثانيا وثالثاً لندرة الشواهد المادية، التي تدل الباحث والقارئ إلى صدق تخميناتهما وفرضياتهما، مما حدث في عراق محتل من قبل أجنبي متخلف حضاريا كالمغول في ذلك الوقت.
يروى أن واحدا من جيش المغول كان يحرس مئتي عراقي كان مصيرهم القتل ليلة كاملة، قبل تنفيذ حكم جزر رقابهم، ولا واحد من هؤلاء العراقيين الخانعين حاول الفرار تحت جنح الظلام للخلاص من هذا المصير، وروي أيضاً أن الجندي المغولي يأمر عشرين من الرجال بالانتظار ريثما يقضي حاجة ويعود إليهم، فيبقون ينتظرونه تحت الشمس اللاهبة في عرض الشارع، وهم يعرفون تمام المعرفة أنه سيقودهم قريبا إلى شريعة تطل على نهر دجلة لقطف رؤوسهم، وإلقاء جثثهم في الماء الجاري، وهذا الخنوع العجيب للعراقيين للمحتل وجده المحللون يعود إلى عقود بل إلى قرون من تدجين الدولة لمواطنيها وممارسة الأرهاب الجسدي ضدهم وتخويفهم بالموت وقطع أرزاقهم وقتل كبارهم الذين يجدون فيهم علامات تمرد أو استخفاف بنظام حكمهم، كل تلك السنوات من العبودية والتدجين خلقت “المواطن الصامت” الذي يقاد للذبح دون أن يبدي أي مقاومة أو يند عنه صوت لرفض ما سيواجهه من مصير.
*كاتب مقيم بالمغرب