مشهدان من الغربة
حسن النواب
ليلة أمس ضاق صدري؛
فتركتُ المنزل إلى مقهى لأختلي بنفسي،
وأمامي فنجان قهوة،
كنتُ أشرب منهُ على مهل والتعاسة تغزوني،
ريثما جاء من يجلس أمامي،
بعد أنْ كرع جرعة طويلة من كأس الجِعة،
سألني عن بلدي؟
قلت لهُ العراق.
وإذا به ينهضُ منزعجاً كالملدوغ،
ليجلس في مكان آخر؛
وحين أكملت آخر حسوة من فنجان القهوة؛
توجَّهتُ نحوه لأسألهُ بصراحةٍ، وقد استفزَّني تصرفهُ المريب:
- يبدو أنَّكَ انزعجت؛ عندما عرفت أني من العراق؟
أجابني بأسى:
– لأنَّكَ من المؤكد ستحدثني عن الحرب.
عدتُ استفهم منهُ:
- من أي بلد أنت؟
أجابني بقنوطٍ وقد طأطأ رأسه:
- من صربيا التي كانت تشبه وطنك بالويلات والحروب.
- وكيف عرفتُ أني خضتُ الحروب؟
- الجنود الذين خاضوا الحروب متشابهون بتعاستهم.
مع بدء موسم الخريف هنا في أستراليا، تحرصُ منظمات إنسانية تُعنى بالبيئة على تجهيز أكوام من السماد النباتي مجاناً إلى مزارع صغيرة في الحدائق العامة يشرف عليها مجموعة من أصدقاء البيئة، وهناك من يتصل بتلك المنظمات فتحمل له ذلك السماد النباتي إلى داره من دون مقابل، بغية انتفاع الناس منهُ لحدائقهم، وهو عبارة عن نشارة من خشب أشجار الغابات وما أكثرها في أستراليا، ولأنَّ الفسحة التي أمام منزلنا لا تسع لكمية سماد كبيرة؛ اعتدنا على جلب ما نحتاجه من هذا السماد النباتي لحديقة المنزل من مزرعة صغيرة لا تبعد كثيرا عن مكان إقامتنا. قبل يومين ذهبتُ مع أم تبارك إلى تلك المزرعة الصغيرة لجلب تلك النشارة في أكياس جئنا بها معنا، وإذا برجل مستطرق ينظر نحو أم تبارك بشزر، ألقيتُ عليه التحية لأستجلي عن سبب تلك النظرة الحاقدة، فلم يرد، الأمر الذي دعاني إلى تكرار تحيتي، وإذا به يتجاهل مبادرتي تلك ولبثَ يحملق لبرهةٍ نحو أم تبارك وانصرف بعيداً؛ فخمَّنتُ أنَّ هذا الرجل أما مخبولاً أو موتوراً وقد انزعج من وجود الحجاب على رأس زوجتي، واصلنا عملنا بملأ الأكياس بنشارة الخشب، وإذا به يعود خلسةً ويلتقط صورة إلى لوحة رقم مركبتنا ويبتعدُ عن المكان مهرولاً. كان بوسعي اللحاق به وأشبعهُ ضرباً برغم طول قامته، لكني وبخبرتي في هكذا مواقف حرجة صادفتُ منها الكثير في حياتي لم ينجح باستفزازي؛ لكني هتفتُ عليه وقد سمعني: سحقاً لكَ أيها الأحمق.
ثمَّ كتبتُ خطاباً لمشرف المزرعة وأخبرته بسطورها عمَّا جرى لنا مع هذا الرجل المريب، بعد ساعتين وصلتني رسالة منهُ يقول فيها: إنَّ هذا الرجل أرسل لي رقم مركبتكم بوصفكم تسرقون السماد؛ لكني أجبته إنهم أصدقاء للبيئة وأنا أعرفهم منذ سنوات وقد أذنتُ لهم بحمل ما يرغبون من سماد نباتي، لا عليك منهُ، يبدو أنه عنصري متطرف ويكره النساء المحجَّبات. بعد مضي ثلاثة أيام كمنتُ لهُ في الحديقة، وقد جاء مع كلبه الدميم الذي تغوَّط على العشب، التقطتُ صوره لما فعله الكلب، وأرسلتها لمشرف المزرعة، بعد أسبوع وصلتني رسالة من مشرف المزرعة يقول فيها: إنَّ الرجل العنصري لم يكنْ صديقاً للبيئة، وقد تلقَّى غرامة قاسية وتحذيراً شديد اللهجة بسبب إهماله؛ لأنهُ لم يرفع براز كلبه عن عشب الحديقة؛ وستكون عقوبته أشد إذا تكرر ذلك منهُ؛ فتنفستُ الصعداء.