الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الأناناسة

بواسطة azzaman

الأناناسة

محمد زكي ابراهيم

 

 لم أقرأ أن شجرة برتقال أنجبت في يوم ما تفاحة، أوأناناسة”! ولم أسمع عن نبتة حنظل أثمرت خوخة أوكيوية”! ولا أذكر أن أحداً أخبرني عن حمارٍ تظاهر بالشبع وهو جائع، أو عنسَخْلٍعزف عن التهام العشب وهو في غاية اللهفة إليه!.

وهذه الكائنات الحية لا تعرف الكذب، ولا تحترف الخداع، ولا تُظهر خلاف الواقع، فهي تجوع وتأكل، وتنام وتتناسل، وفق نظام خاص لا تحيد عنه، ولا تجرؤ أن تفعل ما لا تريد، أو تتصرف بما لم تعتد، أو تخرج على نظام لا تعرف سواه.

ولكنني رأيت أناساً كثيرين يظهرون غير ما يُبطنون، ويُصدحون بخلاف ما يعتقدون، ويأتون من الأفعال ما لا يحبّون، وسبب ذلك أنهم أوتوا وسيلة من وسائل التمويه لم يُؤْتَ أحدٌ غيرهم مثلها، وهي: اللغة.

وما اللغة إلا السلاح الأشد خطراً في هذا الكون؛ فهي ليست أداة للتعبير عن المشاعر، بقدر ما هي طريقة لإخفائها، وليست غايتها التصريح بما في القلب، بل إنكار ما يضمره، وهي أقوى في تأثيرها من المخالب، والعضلات، والأنياب، والقبضات الحديدية.

ولا غرابة إذا ما كان ثمة انفصال بين عقل المرء وعمله، أو بين تفكيره وسلوكه، أو بين معتقده وسيرته؛ فهو قادر على خداع الغير، والتدليس على الناس، والانفصال عن الواقع.

 وهذه مجتمعة هي السر في خراب المجتمعات، وتدهور البلدان، وهي السبب فيما حدث من مشاكل وجرائم ومآسٍ وخطوب للإنسانية على مدى تاريخها الطويل!.

وقد قضت البشرية عمراً طويلاً من حياتها دون أن تستطيع السيطرة على الطبيعة، فلم تستخرج معدناً، ولم تنتج طاقة، ولم تبتكر آلة، أو تصنع سيارة.

وطفقت قروناً تصوغ الأقوال، وتنظم الأشعار، وتميل للكلام الخالي من المسؤولية، وتغرم بالبيان العاري من الحقيقة.

أي إنها كانت في الأصل مخلوقات أدبية صرفة، لا تدرك من حقائق الكون إلا الظاهر واليسير، وإن كانت تعرف عن مكامن الروح، وخلجات النفس، الكثير.

ولكنها حينما برمت بكل هذا، وقررت أن تتحول من النظريات البحتة إلى الأفعال الجادة، ومن الأفكار المجرّدة إلى التجارب العملية، ومن المقولات الإنشائية إلى العلوم الرياضية، ظهرت منجزات الحضارة بأبهى شكل، وتنوعت سبل العيش بأفضل صورة، وباتت قادرة على إنتاج ما تحتاجه من السلع والحاجات، وما يروق لها من العدد والآلات.

ولكنها لم تفقد قدرتها على الكلام والكتابة، ولا زهدت بالأدب والفن، بل تمكنت من ترشيد هذه الملكة، وتطويعها للتعبير عن الحقائق والأفكار العظيمة.

وما زال هناك من بقي حتى هذه اللحظة لا يجيد غير صناعة الكلام المنمّق، ولا يتقن إلا تدبيج الخطب الرنّانة، ولا يُحسن سوى التلاعب بالألفاظ، ولا يدرك أن الضعف الذي تعاني منه الشعوب، والفقر الذي تقبع فيه الأمم، والموت الذي يُساق إليه الملايين، ناتج عن هيمنة الزيف، وغلبة الباطل.

وفي مثل هذه الأجواء لا يمكن أن نتوقع أي تقدم أو تطوير أو إصلاح، بل لا بد أن نتأمل الكثير من النزاعات، والمشاكل، والحروب.

ومثلما لا نريد نحن من النخلة غير التمر، ولا نطلب من الأناناسة سوى الأناناس، فإننا لا نأمل من الإنسان إلا أن يُخلِص للحقيقة، ويسعى في سبيل الحصول عليها، ولا ينشغل بالتدليس، أو ينخرط في الأوهام. فليس هناك أعظم من الحقيقة في هذا الكون.

وهو إذا ما فعل ذلك، فلن يكون بحاجة إلى أمم متحدة أو مجلس أمن، بل إنه سيخلق الدعة والسلام في ذاته دونما حاجة للغير.

فهل يتحقق مثل هذا في يوم من الأيام؟ ويتحوّل الإنسان إلى نبتة خضراء لا تعرف سوى الصدق، والأمانة، والحقيقة؟ .

 

 

 


مشاهدات 53
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/07/02 - 3:10 PM
آخر تحديث 2025/07/04 - 11:30 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 62 الشهر 2325 الكلي 11155937
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير