رحلة في ذاكرة شارع الرشيد.. مترجم مغترب يكشف أسرار أهم شرايين بغداد
أحمد الأمين
أعادني زميلي المترجم الاعلامي سعدون الجنابي الى أروع عقود شهدتها بغداد ونقلني على جناح الذكريات والانطباعات الى أجمل شريان في جسد العاصمة، فقد تلقيت منه وهو مغترب في أمريكا، نسخة من كتابه (رحلة في ذاكرة شارع الرشيد)، الذي صدر بطبعة ثانية منقحة ومزيدة بلمسات مطابع الاديب البغدادية في عمان.
مذكرات شخصية
وتكمن أهمية إفادة الجنابي عن شارع الرشيد، ليس في كونه شهد أغلب الحوادث التي أسهمت في تأسيس الدولة العراقية في العصر الحديث حسب، بل في اعتماد المؤلف على مذكرات ومشاهدات شخصية، طيلة اكثر من نصف قرن، فقد ولد الجنابي في محلة المربعة المتعايشة عام 1947، وهذه الصفة للكتاب تجعل محتواه ينطوي على خصوصية وعدم تكرار، ولعل الذين تابعوا المؤلفات التي صدرت عن بغداد وشارعها الأشهر، يدركون مدى تكرار المعلومات وكثرة الاشارات والحوادث المتماثلة، فيما ينفرد زميلنا الجنابي في خاصية عرض بغدادية تعتمد التجربة الشخصية والانغماس الفردي المتميز عن سواه من المؤلفين، الذين أرخوا أو كتبوا عن هذا المشيد الحيوي، وهو يعترف ان كتابه يمثل تجربة حية مستخلصة من جولاته وتنقلاته وقراءات ومشاهداته وتأملاته والقصص التي عاشها بالحذافير.وبرغم ان حالة الدفاع والعشق التي طبعت دوافع المؤلف التوثيقية، تحتمل الوصف او الاتهام بالانحياز وغض الطرف عن بعض السلبيات، إلا ان الجنابي وضع في الاعتبار دفاعه عن الالق الحضاري لشارع تتعرض عمارته ومفاخر امكنته الاستثنائية، اليوم، الى التخريب والتجريف والاهمال والتهميش. وبذلك فانه يسهم في فضح الوضع الراهن لشارع الرشيد، الذي لم يتعرض شارع اخر، بمستوى تاريخه وأهميته في العالم، الى التدمير المنظم والغزو والاختراق.
ولعل جولة سريعة في مقاطع منه كفيلة بتأكيد الالم الذي يعتصر قلوب محبي بغداد، وهم يرون لؤلؤة من لآلئها الحسان، وقد سقطت في وحل الأذى وقلة التدبير وسوء الادارة.
ان ما يميز كتاب (رحلة في ذاكرة شارع الرشيد) أيضاً، الجهد البارع للمؤلف والفريق الذي ساعده في تعزيز محتواه بالصور والمراجعة وتصميم الصفحات، وقد عزز المؤلف هذا التعاون الثلاثي بملاحق مصورة تمثل أفضل ما اختزنته العدسة العراقية من لقطات لعمائر شارع الرشيد ومشيداته ومعالمه التراثية والتاريخية وقد كان بعضها مفقوداً في الطبعة الاولى. وقد فصل الجنابي في تبيان تواريخها وقصص انبثاقها، مثل قصة بناء عمارة عبود التي تحولت الى ايقونة معمارية جمالية معبرة وفريدة. وحرص المؤلف على تتبع تقدمها العلمي والهندسي، عبر وثائق قسم العمارة في المتحف البريطاني. ولاشك في ان الحديث عن شارع الرشيد يتطلب عرضاً استعادياً لكل ما اشتهر به او اشتهرت بعض الملحقات والمتممات به، من قبيل الاسواق والخانات والعيادات الطبية والساحات والمحال التجارية والمحلات السكنية والصيدليات ودور السينما والفنادق والمكتبات العامة والخاصة والملاهي وستوديوهات التصوير.وكل هذا يشكل معالم مدينة افتراضية متكاملة تمتد على طول الشارع من الباب المعظم الى الباب الشرقي.
جهات متكاسلة
واذا جاز القول ان الكتاب مصدر تاريخي ومعرفي وسياحي صادق ونقي، فأنه يجوز القول ايضاً انه صرخة بوجه الجهات المتكاسلة المعنية كأمانة بغداد ودائرة الاثار والتراث والمنظمات الثقافية من أجل انقاذ شريان الروح البغدادية وعماد العمارة العراقية وثمرة التقاليد الثقافية والاجتماعية، قبل ان تطويها عوامل القهر والزوال، وهي دعوة أوجهها دون تحفظ الى الحكومة للشروع بمشروعها الخاص باحياء شارع الرشيد وازالة العقبات التي تعترضه، والاعتماد على كتاب الجنابي، كخارطة ووثيقة لاعادة تشكيل سماته الغائبة، فذاكرة زميلنا الجنابي التي اعتصرها في هذا الكتاب، تصلح لانقاذ احد أبرز وأهم معالم بغداد، ذلك ان الحديث عن مشاريع وخطط تجميل بغداد يبدو مبالغاً به او لا ينطوي على صدقية، اذا ما أهملنا شارع الرشيد وإعادة ألقه وتقليم مخالب الغربة التي دهمته.
ان الصور الحية التي تضمنها الكتاب تدفعنا الى تحميل مسؤولية اهمال هذا الشارع الثقافي والمشهد المعماري، على عاتق كل من لا يعشق بغداد ولا يريد لنورها ان يضيء الآفاق، ويطفئ ليل السنوات العجاف.
يقول الامام الشافعي (ما دخلت بلداً قط الا عددته سفراً، إلا بغداد فأني حين دخلتها عددتها وطناً).