ليس المقصود هنا عاصمتي المشرق العربي دمشق وبغداد، اللتين عنت لهما الوجوه، وطبقت شهرتهما الآفاق، بل هما رجل وامرأة، عاشا في القرن الرابع عشر الميلادي. وكانا سببين من أسباب انهيار دولة المغول في العراق.
ولمن لا يعلم فإن لقب السلطان كان يطلق على من يتولى الرئاسة في إيران والعراق والجزيرة وبلاد الروم (تركيا)، بعد أن استقل آباقا خان بن هولاكو عن امبراطور المغول أو الخان الأكبر. واتخذ من تبريز عاصمة له، وما لبث خلفاؤه أن ابتنوا عاصمة جديدة لهم عام 1310 للميلاد أطلق عليها اسم السلطانية بالقرب من قزوين، أما من يتولى الأمور في بغداد فهو الوزير الأعظم، أو صاحب الديوان، وكان أولهم مؤيد الدين العلقمي، وزير المستعصم العباسي آخر خلفاء بني العباس في بغداد، الذي احتفظ بمنصبه بعد سقوط دولة الخلافة.
وتبدو الأمور لأول وهلة عادية جداً، بيد أن السلطة الحقيقية كانت بيد الأمراء، وهم أولاد وأقارب السلاطين الذين تعاقبوا على حكم الدولة، ومنهم نائب السلطان الأمير جوبان، والد دمشق وبغداد، وكان مسلماً صالحاً في حدود ما يسمح به منصبه الخطير هذا، أما ابنه الخواجة دمشق فكان متهوراً، وقد لازم السلطان وتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤونه، وأعانه على ذلك صغر سن السلطان أبي سعيد، وقلة درايته بشؤون الحكم.
ومما عرف به دمشق هذا مغامراته العاطفية، التي حملته على التحرش بالنساء دون خوف أو وجل، فحينما يجتمع النفوذ مع الشباب الغض، ونقص التجربة، يحدث مثل هذا السلوك الطائش. وفي أحد الأيام جاءت أرملة السلطان السابق (محمد خدابندة) إلى ابن زوجها السلطان أبي سعيد، وقالت أنها لو كانت رجلاً لما أبقت على جوبان وأولاده، فقد وصلت الأمور بابنه دمشق إلى (الفتك) بحرم السلطان، وبعدما قضى الليلة السابقة عند إحدى الأميرات، بعث إليها أنه قادم للمبيت عندها الليلة، فلم يسع السلطان سوى إرسال جنوده إلى القلعة التي يبيت بها دمشق هذا وقتلوه، وحينما سمع أبوه جوبان بالحادث وكان حينها في خراسان، أعد العدة للقتال، إلا أن السلطان تمكن منه وقتله هو وعدداً من أولاده.
وتشاء المقادير بعد سنوات من الحادث أن يبصر السلطان الشاب امرأة بارعة الجمال، خلبت لبه، وملكت جنانه، ولما سأل عنها تبين أنها (بغداد خاتون) ابنة غريمه جوبان الآنف الذكر، وكانت زوجة ابن عمته حسن الجلائري.
والجلائري هذا هو الذي أعان السلطان أبا سعيد على التخلص من أبيها والجلوس مكانه، فكان أن تنازل عنها مكرهاً للسلطان أبي سعيد! وباتت بغداد الزوجة الأثيرة له لسنوات عديدة، وغدت بغداد أقرب الناس لمن أورد أسرتها مورد الهلاك.
ولم يبق السلطان على هيامه ببغداد وإيثاره لها، فقد دار الزمن دورته، وأبصر ذات يوم ابنة أخيها (دمشق) واسمها دلشاد خاتون، فأحبها حباً شديداً، وهجر عمتها (بغداد) من أجلها، فما كان من الأخيرة إلا أن دست له السم ذات يوم فمات بعد ساعات وهو في الثلاثين من عمره، ولما عرف الأمراء أن بغداد هذه هي التي قتلت السلطان أمروا بها فقتلت، وألقيت جثتها في الطريق.
ولا تكتمل الرواية قبل أن يقوم الأمير حسن الجلائري، وهو من قبيلة مغولية لا تنتمي إلى فرع جنكيز خان، بالزواج من أرملة السلطان القتيل دلشاد خاتون هذه، وتمت عملية تبادل الزوجات عن طريق القسر تارة، والقتل تارة أخرى!.
وبعد شهور من تولي السلطان (أربا خان) عرش المملكة، قتل هو والوزير غياث الدين في فتنة داخلية، وحاول القتلة الجلوس على العرش والاستئثار بالسلطة، إلا أن ذلك لم يصف لهم، وما لبث الشيخ حسن الجلائري أن تمكن من الأمر وأعلن نفسه سلطاناً جديداً، في بغداد، لينتهي حكم المغول في إيران والعراق والجزيرة والروم، ويبدأ حكم الأسرة الجلائرية في العراق عام 1338 للميلاد ويدوم قرابة قرن كامل.
وهكذا كان لقصص الغرام الجامح الدور الأكبر في طي صفحة الاحتلال المغولي للعراق، وبدء مرحلة جديدة من مراحل التاريخ، استعادت بغداد فيه مركزها السابق كعاصمة للعالم القديم، وإن لم تبلغ قط مكانتها التي بلغتها من قبل.