رجل التعليم .. الواقع والمستقبل
رشيد سكري
-1-
تغيرت الحياة ، ولم تعد كما كانت ، فلا الأمهات و لا الأطفال ما عادوا يتسربلون ، نحو المدارس ، عبر الأزقة والطرقات ، حيث يجدون ذوي البدلات البيضاء ، كالحليب ، ينتظرونهم بوجوه بشوشة ممسوحة بأريج العطر . وفي خفة الأيول يلملمون أغراضهم ، ويفسحون للتلاميذ الطريقَ نحو عوالم المعرفة الفسيح . الحجرات باردة وبعيدة ، والطريق إليها أبعد يتيه بين الشعاب والخلجان المعتمة ، وبين صواعد و هوابط وطول انتظار ... أن يصل الأستاذ إلى حجرة الدرس مسافات طويلة يقطعها ، وهو يتفصد عرقا بين أشجار الصفصاف السامقة و الدفلى ، و بين أسراب الكلاب الجائعة ، التي تشتم رائحة تائهة و معفرة بالتراب .
-2-
أُصدر ، في الجريدة الرسمية ، القانون الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية و التعليم الأولي والرياضة ، فقوبل بالرفض من كل أطياف المجتمع . فلا النقابات ، ولا الأحزاب ، و لا الجمعيات المدنية قادرة أن تسحب فتيل الاحتقان ، فظل الكل عاجزا أمام هذا السيناريو الغريب ،ولأول مرة منذ ستينيات من القرن الماضي . فالأطفال خارج المدارس العمومية ينتظرون أن يعودوا إلى فصولهم الدراسية ، والأمهات والآباء يقتفون أثر أبنائهم ، ويرفعون شعارات ، أمام المؤسسات التعليمية ، متضامنة مع الأستاذ . ومما زاد من درجة الاحتقان والتوتر سحبت الثقة من تحت أقدام النقابات الممثلة للشغيلة التعليمية في مجلس المستشارين ، فبدأت تتساقط كأوراق الشجر في الخريف. إن الدول الحديثة تترك مسافة قانونية بينها وبين كل الهيئات والأحزاب و النقابات ، التي تساهم بشكل أو بآخر في تنظيم المجتمع ، كي لا يكون الصدام مدويا بين الدولة والشعب . فكلما كان المجتمع منظما و مؤطرا ، كلما سهل التواصل معه ، وبالتالي يصبح مادة طيعة أمام الاختيارات التقدمية ، التي تدفع بالمجتمع نحو الحداثة .
-3-
يكفي إعادة النظر في النظام الأساسي لموظفي وزارة التربية الوطنية و التعليم الأولي والرياضة ، أو سحبه نهائيا ، وإحداث الدرجة الجديدة ، فضلا عن مراجعة الأرقام الاستدلالية للوظيفة العمومية ، علاوة عن تلبية مطالب كل الفئات ، وحل كل ملفات نساء و رجال التعليم العالقة ، منذ اتفاق 26 أبريل 2011 مع حكومة عباس الفاسي ، كي ننعم بالسلم الاجتماعي ، ودرءا للخطر الذي يحدق بأمتنا المغربية . وللخروج من عنق الزجاجة ، على الحكومة أن تعي أن الحوار مفتوح في وجه كل أطياف وألوان المجتمع ، والتعامل مع هذا الأخير ، منظما أفضل من التعامل معه ، وهو يتخبط في الفوضى و سديم سوء التدبير .
-4-
حبى الله المغرب ، قيادة وحكومة وشعبا ، بموقع استراتيجي يُضرب به المثل في موارده الطبيعية المدرة للدخل القومي . غير أن الملفت للنظر هو الخلل في تعميم فائدة هذه العائدات بشكل متساو على عموم المواطنين ، مما يؤثر سلبا على موقع المغرب ضمن دول العالم من الناحية الاقتصادية و الدخل الفردي . إن التعليم ، في هذا المستوى ، يعد التيرمومتر الحراري للتقدم الاقتصادي والاجتماعي ، غير أن النوايا الحسنة ، التي تفصح عنها الوزارة الوصية على القطاع ، أصبحت غير كافية . بالرغم من الإرادة القوية التي عبر عنها العاهل المغربي في مفتتح كل الدورات التشريعية من كل سنة ؛ إيمانا منه أن التعليم القوي يمنح الهوية والأصالة و التاريخ و التشبث بالقيم النبيلة في سبيل إعلاء كلمة التقدم ، و الدخول الوازن في زمن الحداثة و التحديث .
فمن بين العديد من المشاريع التنموية ، التي جُلبت إلى قطاع التعليم ، وإن كانت ذات كلفة باهضة ، باءت بالفشل ؛ لأن اجثتات شتلة منظومة إصلاح تربوي من وسط أجنبي ، وغرسها في وسط آخر لا تجدي نفعا مادامت هناك إرادة غير حقيقية ، وشفافة لتوسيع دائرة الحوار بين كل الفاعلين ، والمتدخلين في حقل التربية والتكوين . علاوة على ذلك ، فقطاع التعليم ليس كباقي القطاعات الخمس الأخرى ، فالمقاربة التي يجب أن يباشر بها المسئولون الإصلاح يجب أن تراعي خصوصية القطاع ، فضلا عن ، إشراك كل المتدخلين المباشرين وغير المباشرين ، والمعالجة يجب أن تكون على قدم وساق بين كل فعاليات المجتمع المدني .
فالأستاذ عندما ينجز درسا أمام الطلبة ؛ فإنه يخاطب فيهم الذاكرة والخيال و المتخيل و النفس والروح و الشعور والإحساس ، وما إلى ذلك من المكونات النفس البشرية ، لذا فالتعليم ، كقطاع استراتيجي وحيوي ، يميل أكثر إلى العلوم الإنسانية منه إلى العلوم البحثة .
-5-
إن الاعتناء بصورة المدرس، والحفاظ على هيبته في المجتمع ، أصبحت ذات أهمية قصوى للنهوض بالتربية و التعليم في بلادنا . فالدول المتقدمة تنزّل المدرس منزلة رفيعة لتأثيره المعنوي والبسيكولوجي في الناشئة ، وكل ما يحيط به في المجتمع . لا لغاية إلا من أجل أن يؤدي رسالته بأمانة . فالتحضر والحداثة تقضيان بتخفيف الأعباء عن كاهل المدرس من التزامات ذاتية و غيرية ، واستفادته اللامشروطة من الخدمات الاجتماعية ، التي تعرقل مسيرته المهنية و تشوش على عطائه الفكري . فنحن واعون بمدى الحيف الجائر الذي يعانيه المدرس المغربي داخل منظومة التربية والتكوين ، وما النظام الأساسي إلا تلك الصورة المصغرة عن هذا الشطط ، الذي يتعرض له رجل التعليم ، حيث خصصت الوزارة الوصية صفحة ونصف من العقوبات التأديبية الحاطة من كرامة المدرس ، مخالفة بذلك كل العقوبات المنصوص عليها في الوظيفة العمومية . إن هذا الفعل يثبت ، وبالملموس ، مدى جدية الرؤية المجانبة للصواب الموجهة لرجل التعليم بالمغرب ، كما لو أرادت أن تثبت أن تدهور منظومة التربية والتعليم ببلادنا ، ككل ، يرجع بالأساس إلى المدرس ، و يتحمل فيه هذا الأخير ، النصيب الأوفر ، إذا لم نقل إنه المتورط الوحيد في هذا المستنقع الضحل . كما أن الترويج وبناء المتخيل عبر وسائل الإعلام المأجورة ، وخلق تلك الصورة السلبية ،التي انطلت على رجل التعليم لعقود من الزمن ، يزيد من استفحال الوضع ، ويدخل المغرب في نفق مظلم .
هنا يمكن أن نطرح سؤالا جوهريا مفاده : من المستفيد من هذا الوضع غير الصحي لرجل التعليم بالمغرب ؟
-6-
إن الاختلاف صحيٌّ في كل المجتمعات ، وهو مؤشر عن مدى التنوع الفسيفسائي الذي يغذي الديناميكية و الحيوية .
و السير قدما ، قيادة وشعبا ، نحو الحداثة المجتمعية ، التي يطمح إليها المغرب ، خصوصا وأن هذا الأخير فسح مشاريع ضخمة أمام الاستثمارات الأجنبية برساميل ضخمة بهدف النهوض الصناعي والتكنولوجي الفعلي والاقلاع الحضاري ، والاصطفاف إلى جانب الدول المتقدمة . والتنافس الشريف على الأسواق العالمية لإثبات الذات والهوية ، و مسح تلك الصورة السلبية عن المغرب الذي ، في اعتقادهم ، لازال يتدرج ببطء ضمن منظومة الدول السائرة في طريق النمو . وهذه الصورة تعتمل في الخفاء ، لا يجب أن ننكر دور منظومتنا التعليمية العمومية بالخصوص ، بالرغم من الإكراهات و المثبطات ، التي تحول دون بلوغها للأهداف المرجوة .
آن الأوان لتغيير تلك النظرة السلبية و النمطية التي قوبل بها المدرس ، وألصقت به لعقود ؛ لأنه – أي المدرس – أضحى بالفعل قاطرة حقيقية للنهوض المعرفي و الأخلاقي ، وما هدم هذه الصورة إلا هدم للقيم والأخلاق النبيلة التي ، أكيد ، ستضيع علينا سنوات من السير الحثيث في اتجاه الحداثة الفكرية والأخلاقية و الثقافية أيضا .