حسن النواب
في عام 1967 كنتُ في الأول ابتدائي، دخل مدير المدرسة شاكر العلوي رحمه الله إلى الصف وطلب من التلامذة التبرع بخمسة فلوس مقابل طابع يحمل صورة فدائي ملثَّم بكوفية مرقَّطة، وأخبرنا أنَّ هذه التبرَّعات من أجل تحرير فلسطين. كنتُ ألصق الطابع على ورقات دفتر صغير كلما تبرَّعت بالخمسة فلوس والتي كانت مصروفي اليومي في ذلك الوقت، عندما أنهيت الصف السادس ابتدائي؛ امتلأت ورقات الدفتر بالطابع الفلسطيني، ولم تتحرَّر فلسطين.
دخلتُ إلى إعدادية الزراعة؛ وعمري 61 عاماً؛ كنتُ طالباً في المرحلة الأولى؛ عندما عرضوا على الطلبة التطوّع بصفة فدائي من أجل فلسطين؛ كان ذلك في عام 7691؛ تقدَّمتُ للتطوِّع مع صديقي حميد الزيدي الذي أعدمهُ الطاغية في عام 1891؛ سأل المسؤول عن التطوِّع صديقي الزيدي:
- ما هو السلاح الذي تجيدهُ؟
أجابهُ حميد:
- السلاح الأبيض.
لم أكنْ أعرف في وقتها ماذا يعني السلاح الأبيض؛ فظننتُ أنَّ جواب صديقي كان عن سلاحٍ لا أعرفُ استخدامه؛ بالطبع كان صديقي شيوعياً في السر وكان على ثقافةٍ راجحةٍ؛ وهو السبب الجوهري في إغوائي للتطوّع معهُ، سألني المسؤول نفس السؤال:
- ما هو السلاح الذي تجيد استعمالهُ؟
أجبتهُ مرتبكًا:
- عشقي إلى فلسطين.
عندما أخبرت والدي رحمهُ الله عن تطوعي، عانقني بضراوة وأجهش بالبكاء؛ كأنَّهُ تخيَّل موتي شهيداً؛ لكن ذلك لم يحدث؛ لقد تلاشت ضجَّة التطوع بعد شهر حتى اندثرتْ ولم يعد يذكرها أحد؛ ليخبرني صديقي حميد الزيدي سرَّاً:
- هذا إعلان زائف قام فيه النظام البعثي لاختبار وطنية التلاميذ.
تذكَّرتُ ذلك وأنا اسمع أغنية فدائي لعبد الحليم حافظ؛ وأراقب بلا انقطاع منذ عشرين يوماً المجازر الدموية في غزَّة، لقد تركتُ متابعة مباريات كرة القدم التي أدمنتُ عليها؛ منتظراً بغاية القلق إلى أين سيأخذ طوفان الأقصى بهذا الشعب المنكوب؟ وإذا سألني أحدكم الآن:
- هل تتطَّوع فدائيًا لأجل فلسطين.
سأجيبهُ بصراحةٍ:
- لقد بلغتُ من اليأس عتيَّاً.
في سنوات الحصار القاسية التي بدأت مطلع التسعينيات؛ أصبح شراء قميصٍ جديدٍ ضرباً من الخيال، ولذا كان أغلبنا يرتدي قمصان حائلة اللون يكاد يتمزق نسيجها البالي لقدمها ومن كثرة الغسل. ومع ذلك أقامت وزارة الثقافة مهرجان المربد بعد مرور سنتين على الحصار؛ لتعبئة الشعراء العرب ضدَّ قرار الحصار. من ضمن وفود الشعراء العربية التي حضرت إلى فندق المنصور ميليا كان الوفد الفلسطيني. ذات ليلة اجتمع بعض الشعراء الفلسطينيين في غرفتي وأخبرتهم عن حكاية التبرع بخمسة فلوس لفلسطين مقابل طابع الفدائي عندما كنتُ صغيراً؛ تأثروا بكلامي؛ بل أنَّ أحدهم لم يتمالك عاطفته وارتمى على صدري ناحباً. وقبل أنْ يعودوا إلى ديارهم جمعوا عشرات القصائد من شعراء عراقيين كانت من ضمنها قصيدة لي على أمل نشرها في مجلاتهم الأدبية. عندما عادوا إلى مهرجان المربد بعد عام، عرضوا علينا المجلات التي نشرت قصائدنا، وفوجئنا بهم يغدقونَ علينا بمكافآت سخية مقابل نشرهم لتلك القصائد في مجلاتهم. كانت المكافأة التي استلمتها تعادل راتبي أضعافاً مضاعفةً وأنقذت عائلتي من شظف العيش لشهرين. لم يكتفوا بذلك، إنَّما كانت لهم مبادرة أخرى رائعة وفي منتهى الإنسانية؛ إذْ كنت أمشي برواق الفندق وإذا بصديقي صلاح زنكنه يأخذ بيدي إلى غرفتهِ؛ عندما دخلت فوجئت بكوم من القمصان على أرضية غرفته، سألتهُ مستغرباً:
- هل أصبحت تاجر ملابس من خلف ظهورنا؟
ضحك من أعماق حزنه وابتلع دخان سيجارته ليخبرني بحماس:
- اختر القميص الذي يناسبك وكفَّ عن التعليق.
كان عدد القمصان يربو على الثلاثمئة؛ احتجتُ إلى نصف ساعة حتى أجد القميص الذي يناسبني، ارتديتهُ على الفور مبتهجاً؛ وألقيتُ بقميصي المبتذل الذي ظلَّ يلازمني لثلاث سنوات في سلَّة المهملات، تنفست الصعداء، كأني أصبحتُ إنساناً محترماً بهذا القميص؛ سألتُ صلاح بإلحاح هذه المرة:
- بالله عليك من أين جئت بهذه القمصان القشيبة؟
أجاب والدمع يلمع في عينيهِ:
- الوفد الفلسطيني طلب مني مرافقتهم في أسواق بغداد، وخلال تبضعهم دخلوا إلى متجر للملابس واشتروا هذا العدد الهائل من القمصان. وطلبوا مني توزيعها على الشعراء العراقيين، مع رجائهم ألاَّ أخبركم عن مصدرها. لكن أنت لعين وانتزعت الحقيقة من فمي الآن. أقسم عليك بحق صداقتنا وعذاباتنا ألاَّ تبح بهذا السر لأحد.
وها أنا بعد مرور أكثر من أربعين عاماً أتخلَّى عن قسمي وأذيع سرَّه الآن.
أغفر لي يا صديقي صلاح زنكنه.