لا يبدو أننا وسط المتغيرات الهائلة التي تجتاح العالم اليوم، قادرون أن نحقق ما حلمنا به أيام الصبا، أو نظفر بما كنا عقدنا عليه العزم منذ سنوات، وبات علينا أن نرضى بالقليل الذي نجده، ونقنع باليسير الذي نلقاه.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لنا كأفراد، فإن من الطبيعي أن تعاني دولنا، وحكوماتنا، ومؤسساتنا العامة والخاصة، من الشيء ذاته، وتعجز عن التخطيط للقادم من السنين، بل وتقف مذهولة أمام ما يجري أمام أعينها من تطورات.
والأمثلة على هذا لا تعد ولا تحصى، ولا تكفي صفحات كثيرة للإحاطة بها.
لكننا إذا ما أردنا أن نلتفت إلى معاناة العراقيين الأولى، التي لا يبدو أنها ستنتهي يوماً، فسنجد أنها دون ريب، مشكلة السكن.
ومذ أبصرت أعيننا النور، إلى يومنا هذا، ما يزال البناء مستمراً، ومازالت الأحياء تتكاثر، بل إن الدور القائمة أخذت تنقسم على نفسها، إلى منازل مجهرية.
وفي ذات الوقت فإن مشاريع المساكن العمودية في العاصمة وسواها من المدن، تنتشر بما يشبه الثورة. أما توزيع قطع الأراضي على منتسبي الدولة، فلم يتوقف منذ عشرات السنين.
ومع ذلك فإن الحاجة للوحدات السكنية ترتفع كل يوم، والشتائم تطال الحكومة، والاتهامات التي توجه للمسئولين لا تنقطع بالمرة.
والحقيقة أن أحداً لم يلتفت إلى سبب هذه المعاناة الدائمة، التي تجعل منها مشكلة غير قابلة للحل، وهو موضوع الزيادة المفرطة في السكان، التي تعيق أي تنمية حقيقية في العراق، وإذا ما بقيت الحال على ما هي عليه، فلن يأتي اليوم الذي تتوقف فيه هذه الشكوى، أو تتدنى قيمة العقارات، أو لا يجأر الناس بالشكوى من ندرتها، فبلد مثل العراق لا يستوعب عدداً غير محدود من السكان، بل لا بد له من نظام يحد من الزيادة السنوية التي تفوق المليون إنسان.
وبسبب هذا التضخم السكاني، فإن من الصعب الشروع في التنمية، وستظل البلاد معتمدة على مادة ناضبة، أو متذبذبة الأسعار هي النفط، إلى أمد غير معلوم.
لم يعد البديل الذي كان يعول عليه الناس، وهو الزراعة ممكناً، بعد أن أوشكت أنهار العراق على الجفاف،أي أن المستقبل الذي ينتظر العراق بعد نصف قرن مثلاً، لا يبدو مشجعاً بالمرة.
وإذا ما تردت أوضاع العراق المادية، فإن بقاءه قوياً موحداً، لن يكون ممكناً، ففي المراحل التاريخية التي شحت فيها موارده، كان الأعداء – في الداخل والخارج يتربصون به، ويحاولون الإجهاز عليه. وآخرها الغزو الداعشي الذي حدث بعد انهيار أسواق النفط العالمية، وجعل فئات عدة تفكر بطريقة أو أخرى بالانفصال!.
يعول البعض على بدائل جديدة، يمكن أن تؤمن العيش الهانئ للملايين الحاضرة، أو تلك التي في طريقها للمجيء، مثل طريق الحرير، وقد يكون هذا المشروع خياراً جيداً، لكن الكثير من الدول تتوق لتحظى به دون العراق، أو لتقطف ثمراته قبله، والأمر يعتمد على الإغراءات المقدمة من كل بلد للفوز به، ومثل هذا الأمر مايزال غير واضح حتى الآن.
يبدو أن فهم ما سيحدث في المستقبل ليس بالأمر اليسير، وعلينا أن ندرك أننا لن نكون قادرين على الاستمرار بنمط حياتنا هذا إلى ما لا نهاية، ومن الخير لنا أن نتوقع مزيداً من الصعوبات، من أن نشتم أولي الأمر كل يوم، فهذا لن ينفعنا في شيء، ولن يخفف من وقع الكوارث علينا بأي حال من الأحوال.