كذب المتنبئون و إن صدقوا
حرائق الغرب الكندي.. إستطلاع من شرفة المنزل
رياض شابا
لم تمطر الاربعاء “ بغزارة “ و لا الخميس ، كما قالوا ! امال كبيرة مازالت تعقد على ما تجود به السماء للتخفيف من حدة نتائج حرائق مقاطعة “ بريتيش كولومبيا “ و الاقاليم الشمالية الغربية الخاضعة لحالة الطوارئ القصوى . قالوا ايضا ان الدخان الملوث ، ستتراجع اثاره . ثقيل ، كريه ، يكتم الانفاس ، و يجعل السخام عالقا بالمباني و الحدائق و السيارات و كل ثابت و متحرك ، و الخيمة الرمادية ماتزال تفرش جسمها المتهدل، سابحة باصرار في الفضاء ، اتية من مواقع الكارثة ، حيث الافق داكن و الغيوم تتشح بحمرة مشربة بالسواد .
شقيقي الاصغر يعاتبني بشدة لانني لم اضع الكمامة في نزهتي المسائية امس !
“ و ماذا يشكل ذلك ازاء هول الماساة يا رعد ؟ “ ماذا يعني استنشاق بعض “ الانبعاثات القياسية من الكربون و الجسيمات المؤذية “ امام مشاهد الاف العالقين و المشردين والنازحين و الخاضعين للاخلاء ؟ و مئات المساكن و المنشات و الهكتارات الخضر التي احالتها النيران الهوجاء الى جمرات ساخنة و حطام محترق ؟ ماذا عن حرائق من نوع اخر في اطراف دنيانا ، تاكل البشر و تطحنه في حروب دامية و سموم مخدرة ؟و تجهز على انسانيته ، بمخالب الفساد و التهميش و الغدر و الاقصاء و النفاق ؟ماذا عن التجويع والتعطيش و التفقير مع سبق الاصرار و الترصد ؟
دعوني اعود الى حرائقي اذن ، و اكمل استطلاعي .
قيظ شديد
لقد جرت الامور بسرعة ، و ليل الجمعة عشنا الفصل الاول . منزلي و شرفتي الصغيرة ، اول من اخبراني بما يجري . كنا منذ ايام تحت وطئة قيظ شديد ، و المكيف يعمل حتى ساعات متاخرة ، نطفئه عندما نلجا الى الفراش ، و نفتح النوافذ على عادتنا كي ننعم بنوم هادئ توفره انسام الطبيعة الخضراء التي تطوقنا من كل جانب و تتلطف علينا في مثل هذا الوقت ، لكن المفاجاة كانت بدخول تيارات قوية سريعة ، ابرد من هواء المكيف نفسه ! عندها عدت للاغلاق ، و بينما انا اتحول الى القنوات الكندية التي نادرا ما استخدمها ،وقعت المفاجاة التالية ، بانقطاع الكهرباء ، و هو امر لم يحصل منذ ايام كارثة الزلازل التركية و السورية ، و ليلتها راودني حلم مزعج ، قد اقصه عليكم ذات يوم ! يا لها من مصادفة ، او مفارقه سموها ما شئتم .
لم يعد التيار حتى الصباح التالي ، لكننا شعرنا بانخفاض واضح في حرارة الطقس ، هرعت صوب النوافذ و الشرفة ، كي” استطلع “ الامور ، فاذا بالاخيرة في فوضى غريبة ، تختلف عما ترتكبه السناجب اللعينة بين الحين و الاخر من عبث يغيظني . بعض الاصص “ و افضل ان اقول سناديني “ ، قد “ طارت “ من مواقعها ، فيما الاغصان تتراقص على ايقاعات ريح شديدة ، تذكرني كلما عايشتها ، بعلاء الاسواني و روايته الكبيرة “ شيكاغو “ حيث يفرد حيزا للحديث عن رياح تلك المدينة الجامدة الزاخرة بالحكايات المدهشة . والرياح في “فانكوفر” قد تفعل فعلها ايضا ، اذ ان سرعتها المجنونة توقع جدرانا و اشجارا تتسبب في قطع الكهرباء في احياء و مناطق عدة ، و يتكرر الامر في مواسم مختلفة من العام، و هي تسرع في نقل نتاجات الحرائق ، و تفاقم اثار العواصف الماطرة و الرعدية ، فيما سيارات الاطفاء و الاسعاف و الشرطة ، تزمجر في كل الارجاء .وجدت نفسي اقلب القنوات الكندية من دون اي توقف ، حيث البشر و الياته و تقنياته ، يكافحون من اجل التصدي لغضب الطبيعة و عنفوانها . رايت القليل من الكثير ، و لن اتمكن، بالتاكيد ، من اللحاق بسيل المعلومات و الاخبار و الارقام و الصور المؤلمة ، و الانسانية ، لمعركة يخوضها رجال الاطفاء اولا ، سعيا منهم لتامين التجمعات السكانية، بكبح جماح الحرائق وعمليات الانقاذ. هناك “ حتى كتابتي هذه السطور “، اكثر من 386 موقع حريق ، و الالاف في انتظار ان تلقى لهم اطواق النجاة ، ضمن خريطة المعركة التي تشمل اماكن قريبة من “فانكوفر الكبرى “ “مدينتي” و حوض نهر” فريزر “العملاق ، و التي تهددها “مخاطر صحية عالية جدا “ في كارثة وصفت بانها الاسوا هنا ! حيث اضطرت السلطات الى الاستعانة بالجيش و سلاح الجو ، تساعدهم الشرطة و الفرق الصحية و الملاكات الطبية و المتطوعين و المتبرعين ، فضلا عن عشرات الاطفائيين الاتين من المكسيك.
و بمرور الايام و مع عودة الكثيرين الى الاكمام الطويلة و اطفاء المكيفات و المراوح، بسبب انخفاض الحرارة ، و هو امر غير مالوف في مثل هذا الوقت من السنة ،نتيجة الشمس الشاحبة المختبئة خلف الدخان ، لقد قمت بمتابعة تحركات الكثيرين من المسؤولين الحكوميين و الحزبيين ، من وزراء اتحاديين و رئيسهم” ترودو “، الى معنيين و وزراء و عمد” بضم العين” محليين يظهرون في مواقع الحدث ، يتحدثون الى الصحفيين وعن جهودهم التي ستستمر لايام ربما اسابيع : “ اذ انه مازال هناك الكثير من العمل في اعماق الغابة “ ، من السهولة بمكان ملاحظة ان الكثيرين منهم لم يتمتعوا بقسط كاف من النوم ، على وجوههم اثار التعب المجبول بالحرص و الجد و العزم على انجاز المهمة .
وزيرة الطوارئ
و من بين الوجوه ، يمثل امامي وجه “ باوين ما “ وزيرة الطوارئ المحلية في مقاطعتنا ،تحدث الاعلام بصوت تخنقه الغصة و تكسوه العبرات، و وزير الغابات المحلي “بروس ولستون “ الذي بدا صارما ، هادئا ، متفهما لما يجري ، و ما يتوجب عمله لايقاف الماساة .
هنا قررت ان اختم بتامل صور استطلاعي من جديد و التي رتبها بحرص شديد و ذوق رفيع شقيقي الدكتور باسم في الحادي و العشرين من الشهر الحالي ، و بطريقة توحي بان بعد الدمار هناك بناء دائما، و ان يوما سياتي تورق فيه الازهار من تحت رماد الخراب .
و لذلك عدت بسرعة الى اخبار وطن غادرته ، بحثا عن امل ، يبعث من تحت الركام .