رحيله خسارة جسيمة .. عماد عبد السلام رؤوف والفقاهة في التاريخ
سلام الشماع
أسلم الدكتور عماد عبد السلام رؤوف الروح إلى بارئها اول أمس الأحد وبذلك فقد العراق مؤرخاً ومحققاً وموثقاً كبيراً واستثنائياً، بل رمزاً كبيراً من رموز المدرسة التاريخية العراقية المعاصرة.
ولد المؤرخ رؤوف في بغداد سنة 1948 من عائلة موصلية الأصل عباسية النسب وتلقى علومه الأولية فيها. دخل كلية الآداب في قسم التاريخ وتخرج فيها العام 1970 ثم واصل دراسته العليا في جامعة القاهرة ونال شهادة الماجستير في التاريخ الحديث العام 1973 عن رسالته (ولاية الموصل في العهد الجليلي 1749-1834). ونال شهادة الدكتوراه العام 1976 في الجامعة نفسها عن رسالته (الحياة الاجتماعية في العراق في عهد المماليك 1750-1831). وعين رئيساً لمركز إحياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد، واستاذاً للتاريخ الحديث في كلية التربية في جامعة بغداد. وصل الدكتور رؤوف، في علم التاريخ، إلى مرحلة الفقاهة، وترك لنا ما يزيد على 102 كتاباً بين تحقيق ومؤلف، منها أربعون كتاباً محققاً والباقي مؤلفات في التاريخ أغنت المكتبة العراقية والعربية، فضلاً عن إشرافه على العديد من طلبة الماجستير والدكتوراه في التاريخ الإسلامي، وكتب عن اعماله عديد من رسائل الدبلوم العالمي والماجستير والدكتوراه في العديد من الجامعات العربية، وترجمت بعض مؤلفاته إلى عديد من اللغات، وبخاصة الإنكليزية والفرنسية والتركية والفارسية والكردية والإندونيسية، إلى جانب نشره عشرات البحوث في العديد من المجلات العلمية والأكاديمية والمحكمة في العراق والوطن العربي. كانت له في التاريخ آراء ونظرات استشففتها منه، خلال مرافقتي له، بحكم عملي الصحفي، في حقبة تسعينيات القرن الماضي وحتى بعد أشهر من الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ تفرقت بنا السبل فغادر هو إلى شمالي العراق وأقام هناك وتوجهت أنا إلى الإقامة في سوريا ثم البحرين ثم الأردن.
من تلك الآراء والنظرات أنه كان يجد التاريخ مهماً في حياة الشعوب من خلال تقديمه صورة الجذور التي ينتمي إليها أي شعب، فالتاريخ يمثل الهوية لكل شعب، إذ حينما تختل المفاهيم لا يبقى غير التأريخ هوية ثابتة لشعب من الشعوب، والأمة التي تجهل تأريخها، أمة بلا هوية، ومن لا هوية له، يمكن أن يقع ضحية الآخرين، ويسقط تحت تأثير التحديات المستمرة، وربما اختلت قناعاته وسلك مسلكاً يضر بمصالحه الوطنية.
عالم قديم
كان يرى، كذلك، أن الحلم الأمريكي المستقبلي مبني أيضاً على فهم للتأريخ، وكان يردد أن كثيرين يقولون إن العالم الجديد ولد عند اكتشافه على يد كريستوفر كولومبس، مع أن العالم الجديد هو امتداد للعالم القديم، وهو تطور منه، وهو ولادة جديدة له، وإن الإنسان في أمريكا، هو نتاج تراكمي لحضارات كثيرة استطاع أن يتفاعل معها تفاعلاً حياً لكي يحول هذا التفاعل إلى طاقة تدفعه إلى الأمام، ويشدد على أن هذه قاعدة عامة، لكن نحن اكتفينا بالنظر إلى الماضي والاعجاب به، بمعنى التوقف عنده وتحويله إلى ما يشبه أن يكون وجبة غذاء لا تنتهي، مع ان وقتها قد انتهى وأصبحت بنا حاجة إلى غذاء جديد، أي ان نتوافق مع زماننا الذي نعيش، وأن نبني لزمان مقبل، وإن الأمريكان أيضاً استفادوا من حاضرهم ومن ماضيهم، فالحضارة الأمريكية هي نبت الحضارة الأوربية.
وينظر إلى الذين روَّجوا للعولمة على أنها البودقة الاخيرة لصهر الحضارات في حضارة عالمية واحدة وبشروا بظهور نظام سياسي عالمي واحد يلغي تعددية الأمم وتعددية الثقافات والقوميات والأديان والمفاهيم والقيم، وبشروا بنهاية التأريخ، والذين قالوا إن هذه هي نهاية التأريخ، بأنهم كانوا على صواب، إن كان قصدهم من العولمة إلغاء هذه التعدديات، وهذه الهويات، وهذه القيم، لأنه لن يبقى هناك شيء سوى نظام شمولي واحد واقتصاد واحد ودولة واحدة تفرض هيمنتها على العالم كله، لكنه، برغم ذلك كان يرى ان هذا شيء لم يختبر بعد، وأننا لا نستطيع ان نقيم هذه التجربة الجديدة، فهناك من التنوع، ما هو ضروري لاستمرار الحياة، وأن إلغاء هذا التنوع يعني أن العالم سينتهي، كما هم يقولون، لكنه يعتقد، إزاء هذا التنوع الشديد في القيم والحضارات والثقافات، أن النهاية التي قالوا بها، غير متحققة، وهي، في الاقل غير مجربة إلى الآن.
كان يؤكد أن العلة في تأخرنا تكمن في "العمل"، فالآخرون عملوا فصنعوا حاضرهم ومستقبلهم، أفادوا من ماضيهم وتفاعلوا معه وصنعوا حاضرهم، وهم الان يبنون لمستقبلهم، ونحن لا نعمل، ولا فرق بيننا وبينهم سوى العمل، وحتى لا نندثر علينا أن نعمل، لأننا في حال اندثارنا سيخسر العالم نفسه، لأنه سيفقد عنصراً يمكن أن يؤدي دورا في استمرار التاريخ، والاندثار ليس القصد به الجانب الفيزيائي، بل الجانب المعنوي من الوجود، لأننا سنُطرد من دائرة الحياة ونعيش مستعبدين لأولئك الذين عملوا فاستعبدونا، كما يحدث الآن في العالم فهناك شعوب مهددة بالانقراض، كما هو الحال في افريقيا المهددة بالانقراض بالمجاعات والحروب الأهلية يرى المؤرخ جمال الدين الكيلاني أن "المؤرخ الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف تميز بمزايا شخصية وعلمية كثيرة عرفها طلابه وزملاؤه وكل من كانت له فرصة اللقاء به، وفي تقديري فإن أهم تلك المزايا هو الجمع المبدع بين الإخلاص لمبادئه الوطنية والإسلامية، والإخلاص لقواعد المنهج العلمي في كتابة التاريخ".
تاريخ بغداد
أفدت من المؤرخ الكبير الدكتور عماد عبد السلام رؤوف الكثير عن تاريخ بغداد وخططها وصرت أعرف مواقع آثارها المندثرة وأهم بناياتها ومؤسساتها التي كانت على العصر العباسي والتي اختفت من الوجود، منذ زمن بعيد، وقد ثبتّ ذلك كله في تحقيقات نشرتها مجلة (ألف باء)، في حينها. إن رحيل الأستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف خسارة كبرى منيت بها المكتبة العراقية والعربية، بل رزئ برحيله العراق والأمة، لما أنجزه خلال حياته وهو كثير كثير.
السلام على روحه والعزاء لنا جميعاً.