هكذا وصف الرّحالة الفارسيّ أبو طالب خان المدينة
نخبة موصليّي سنة 1802 كالباريسيّين تهذيباً وثقافةً وأذهاناً نيّرةً
محمّد عجيل
في شتاء سنة 1802م، دخل الرّحالة الفارسيّ أبو طالب خان العراقَ من شماليّه الغربيّ، في قافلة كبيرة مؤلّفة من نحو ثلاثة آلاف رجل، يحرسها مئات من الجنود والفرسان العثمانيّين المجهّزين بالبندقيّات الباروديّة ذات الفتيلة، وخيّالةٌ مسلّحون من قبيلة طيء العربيّة، وحين دخل مدينة الموصل مركز الولاية المسماة باسمها، في عهد واليها محمّد باشا بن أمين باشا الجليلي، انبهر بنخبة أبناء المدينة وأعيان سكّانها، وشبّههم بالباريسيّين، وخصّهم بتوصيفات استثنائيّة لم يطلق مثلها على سواهم من أبناء مدن فرنسا كمرسيليا وليون، ومدن إيطاليا كجنوة وليفورن، ثمّ مالطا وأزمير، فضلاً عن أبناء المدن الإسلاميّة في تركيا ومدن العراق الأخرى التي مرّ بها لاحقاً.
الميرزا أبو طالب خان ورحلته
ولد أبو طالب خان في لكنو بالهند سنة 1753م، وهو ينحدر من أب تركيّ الأصل فارسيّ المولد هنديّ الإقامة وكان من الأعيان، ومن أمّ فارسيّة، أُعدّ ثقافيّا وقانونيّاً وإداريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً ليمكنه أن يبلغ أعلى المناصب في ممالك الهند الإسلاميّة وإماراتها، فشغل مناصب عالية عدّة لسنوات مديدة قبل أن يعزل بسبب الاضطرابات السياسيّة في بلاده، وتوفي سنة 1806م بعد ثلاث سنوات من عودته من رحلته، التي قضاها سائحاً مستطلعاً.
وتعدّ رحلته هذه فريدةً من نوعها بثراء نصّها الأدبيّ ومضمونها الحضاريّ وفحواها الإنسانيّ وغزارة معلوماتها الاجتماعيّة والتاريخيّة والجغرافيّة، واتساع ما غطّته من الدول والأقاليم والمدن والبلدات والقرى، والأمم والشعوب التي تعزّزت صلاتها الثقافيّة في ذلك العصر وتداخلت تجاراتها، فجاءت الرحلة مكتنزة بالوصف الحيّ النابض بالحياة للإنسان والطبيعة والحيوان والشجر.
ترجمها مصطفى جواد عن الفرنسيّة
أنجز الدكتور مصطفى جواد ترجمة رحلة أبي طالب خان عن اللّغة الفرنسيّة في العام الأخير من حياته 1969 وطبعت في العام نفسه في كتاب ساعد على نشره المجمع العلميّ العراقيّ، عنوانه "رحلة أبي طالب خان إلى العراق وأوربة سنة 1213هـ = 1799م"، وقد حظيت الرحلة باهتمام مبكّر من الأوربيّين، فتُرجمت إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والهولنديّة، عن نسختها بالفارسيّة المطبوعة سنة 1812 والتي فُقدت ولم يعد لها وجود.
وكان من حسن حظّ العراق أنّه البلد العربيّ الوحيد الذي كان في صميم مسار الرحلة، ومرّ الرحّالة بمعظم مدنه، من أعالي شماليّه حتّى أقاصي الجنوب، ابتداءً من سنجار فالموصل وقره قوش وعنكاوة، مروراً بآلتون كُبْري وكركوك وقَره تَبّة، حتّى بغداد وسامراء وكربلاء والحلّة والنجف وسوق الشيوخ، وانتهاءً بالقُرنة والمعقل والبصرة، فوثّق أحوالها الاجتماعيّة والإداريّة والاقتصاديّة والعمرانيّة سنة 1802م، بعد أن طاف حول إفريقيا متّجها إلى أوربا، مقيماً أو سائحاً في أهم مدنها ودولها المتمدّنة، ثمّ جال في أنحاء الدولة العثمانيّة التي كانت تسيطرعلى أجزاء واسعة من أوربا الشرقيّة والعالم العربيّ كله.
الموصل سنة 1802
مكث أبو طالب خان بالموصل خمسة أيّام، صادفت الأيّام 18-22 من شهر رمضان لسنة 1882م، وقد لقي حفاوةً كبيرةً من واليها محمّد باشا الجليلي لِما كان يحمل من كتب توصية من السلطان العثمانيّ، وتحدّث عن الوالي قائلاً: "فتلقاني تلق?يا حسنا جدّاً، ودعاني أن أقضي عدّة أيام معه، وهذا الأم?ير من سلالة قدامى السلاط?ين في مدينة القسطنطيني?ّة، وله سطوة عظ?مة وي?حترمه الشعب ك?ثي?راً"، على أنّ مؤرّخي العراق المحدثين يذكرون أنّ الأسرة الجليليّة التي حكمت الموصل لأكثر من قرن، عربيّة الأرومة من ديار بكر.
وذكر الرحّالة أنّ الوالي أمر ابنه محمود بك قائم مقامه أن ي?عتني به وي?رعاه، وقال واصفاً نجل الوالي، الذي سيتولى فيما بعد ولاية الموصل لمدّة قصيرة، والجولات التي خصّه بها ليقف على أبرز معالم المدينة وما حولها: "ومحمود بك شابٌّ جمي?لٌ جدّ مهذّب، ذو خلق محبوب جدّاً، وكان كل ي?وم ي?ع?رني أحد أفراسه، وي?ذهب بي إل?ى مآثر ما حول الموصل وعجائبها فيريني إي?ّاها، وك?نّا دائما مصطحبي?ن ومصحبي?ن بمقنب من الخي?الة، فزرتُ قبر النّبي ي?ونس والقدّي?س جرج?س عل?ه السّلام".
ثمّ وصف المدينة، فقال: "والموصل قائمة على ضفة دجلة في ك?ورة الجزي?رة التي سمّ?ت ك?ذلك لوقوعها بين نهري?ن، ولهذه المدي?نة ك?ما لماردي?ن خندق عظي?م وسور ف?يه عدّة بدنات، وي?ُعْبَرُ نهرُها على جسر من الحجارة"، وتطرّق إلى خيراتها فقال: "ولم آك?ل خي?راً من خبز الموصل ولحم ماشي?تها، وف?ها ك?لّ نوع من الفواك?ه ال?يابسة"، ولا تزال المدينة- برغم ما أصابها من دمار- محتفظةً بهذه المزايا التي أعجبت أبا طالب خان، فضلاً عن غيرها.
ثمّ قال عن نخبة المدينة وأعيانها: "وجم?ع موظّف? الدولة وأع?ان السكّان لمّا رأوا العنا?ة والرعا?ة اللت?ن لق?تهما من محمّد باشا، هرعوا إليّ ?قدّمون لي احترامهم، و ?ان هؤلاء ناساً مثقّف?ن خاصّةً، وذوي أخلاق محبوبة وتفك?ر واسع".
ولم يكتف أبو طالب خان بإسباغ هذه الصفات الإيجابيّة على نخبة المدينة، بل أضاف قائلاً: "ومنذ مغادرتي بار?س لم ألاقِ رجالاً ذو? أذهان ن?ّرة مثلهم".
وعند البحث في الرحلة عن تقييم هذا الرحّالة للباريسيّين، نقرأ: "الفرنسيّون، في الأغلب، ولا سيما الباريسيّين منهم، على غاية من أدب النفس، فهم لا يستعملون البتّة كلمة (نعم) ولا كلمة (لا)، بل يستعينون على تأدية ذلك بالتعريض، وهم لا يملّون من دلالتك على طريقك، ولا من إيضاحِ أمرٍ لك ولا يتعبون، ويعدّون هذه المجاملة علامةَ التهذيب الحسن".. وفي الرحلة الكثير من المقارنات بين أخلاق الإنكليز المعجَب أبو طالب خان بما حقّقوه من تقدّم، وطباعهم، وبين الفرنسيّين، وهي تميل في معظمها لصالح الفرنسيّين.
إنّ هذا التوصيفات تكتسب قيمة كبيرة من عدّة اعتبارات، فأبو طالب خان لا تربطه بهذه المدينة وأهلها صلةٌ تميّزها عن سائر ما مرّ به مدن وبلدات لا تحصى في الشرق أو الغرب، كما أنّ الرجل ما اختار طريق العودة إلى بلاده عبر العراق، إلّا لأنّه كان راغباً بشدّة في زيارة مراقد أئمة آل البيت في بغداد وسامراء وكربلاء والنجف، ولقد زارها كلّها كما زار غيرها، لكنّه لم يقل في نخبتها شيئاً من المدح كما فعل في توصيف أعيان الموصل ونخبتها المثقّفة.
بين لندن وبغداد
ولكي يتموضع هذا المديح العالي في إطاره التاريخيّ، اقتبس من كلام الرحّالة خلاصةً طريفةً أوجز فيها أحكامه على الدول والمدن التي مرّ بها في رحلة الذهاب، ومثّلت لندن ثمّ باريس ذروة تفضيلاته، فقال: "إنّي منذ أوّل ?وم من فصولي حتّ? وصولي إل? إنكلترا، ?نتُ أر? تزا?دَ البهاء والنفاسة ف? الأش?اء، فكلّ مد?نةٍ أبلغُها أراها أجمل من التي غادرتُها".
ولكن كان الأمر على العكس من ذلك في رحلة العودة إلى بلاده، إذ كان الخطّ البيانيّ لدرجة الرقيّ والتحضّر في انحدار كلّما ابتعد عن لندن وباريس. وقال موضّحاً: "و?ان الأمر بالضّد ح?ن رجعت إل? بلاد الهند، وعل? هذا ظهر لي بعد إقامة طو?لة ف? لندن ثمّ ز?ارتي بار?س أنّ هذه المد?نة الأخ?رة ه? دون الأول? ?مالا من غ?ر شكّ، أَجَلْ ف?ها آثارٌ أجمل من آثار لندن، ولكنّها أقلّ تنظ?ماً ونظافةً واستنارةً باللّ?ل، والم?اد?ن العامّة والحدائق أقلّ عدداً، فظننتُ أنّي هو?تُ من الجنّة إل? النار، ولم أشعر بجم?ع جمال عاصمة فرنسا إلّا عندما ?نتُ ف? إ?طال?ا، فمدن إ?طال?ا- عل? حسب رتبتها ف? الذ?ر- ظهرتْ لي جم?لةً بالمقابلة ب?نها وب?ن القسطنط?ن?ّة، وظهرتْ لي هذه الأخ?رةُ جنّةَ الأرض ح?نما تذ?ّرتُ بغدادَ والمدن الأخر?".
وإذن فلم يكن حكمه على نخبة الموصليّين كلاماً إنشائيّاً عابراً، فالرجل كان شاعراً ومثقّفاً وسياسيّاً محنّكاً، يمثّل الثقافة الإسلاميّة وتقاليدها في إيران والهند آنذاك، وكان شديد الدقّة في أحكامه، ولم يكن مسرفاً أبداً في مدحه لما يراه، بل كان على العكس من ذلك، يُكثر من النقد للظواهر والأشخاص والأوضاع التي عايشها ولم ينسجم معها، خصوصاً قبل وصوله إلى أوربا، وفي رحلة عودته إلى بلاده، وخصّ الإنكليز المعجب بهم بكثير من الذمّ لبعض خصالهم وسلوكهم ونمط حياتهم مقابل قليل من المديح.
صفات استثنائيّة
أذكر هذه التفاصيل كلّها لأدلّل على قيمة أحكام هذا الرحالة على نخبة المجتمع الموصليّ، ولأثبت أنّ توصيفه على هذا النحو المثير لنا اليوم، لم يأتِ من فراغ، وإنّما جاء بعد رحلة طويلة شاهد فيها معظم الجزء المعمور من العالم بطرفيه الشرقيّ والغربيّ، وعايش حضاراته وشعوبه وأممه المتباينة تطوّرا وانحطاطاً، وقارن بينها من زوايا عدّة، فأصبح لكلامه وزن واعتبار.
وفي عودة أخيرة إلى رأي أبي طالب خان بنخبة أبناء الموصل، نراه يختتم توصيفاته، بهذه العبارات المثيرة: "ووزراء السلطان لو ?انوا ?ملكون عُشْر براعتهم [يقصد أعيان الموصل] فقط، ما خش?ت عل? ما ?ستقبله «الباب العثمانيّ» من مقاد?ر". ثمّ ذكر أنّ رؤساء ?تّاب الباشا "هم أحمد أفندي وأخوه ?لاهما، وسل?م بك الحا?م السابق لكردستان، وهو ذو معاشرة جدّ لط?فة و?ج?د التكلّم بالفارس?ّة، وله عدّة أتباع من الترك ذوي مواهب متم?ّزة".
لقد بلغ الرحّالة في العبارة الأولى من الاقتباس أعلاه، الغاية القصوى من مدح نخبة موصليّي زمانه، فقد كانت الموصل مجرّد مدينة ومركز ولاية من بين عشرات المدن والولايات الكبرى التابعة للدّولة العثمانيّة، الممتدّة أملاكها بين ثلاث قارّات، وقد جال أبو طالب خان في عاصمتها القسطنط?ن?ّة (اسطنبول الآن)، ومرّ بأعظم ولاياتها في أوربا وآسيا، ولكنّه لم يصف أبناء مدينة منها بمثل هذه الأوصاف الاستثنائيّة، بحيث يجعلهم الأنموذج العالي الذي يتوجّب أن يقتدي به وزراء السلطان العثمانيّ، لينقذوا امبراطوريّتهم الشاسعة ممّا تخطّط لها الدول القويّة الكبرى التي كانت تتربّص بها.
جنود موصليّون يحمون
النجف
في العام الذي سبق وصول أبي طالب خان إلى الموصل، كان واليها محمّد باشا الجليلي قد قام بمأثرة عظيمة تسجّل في تاريخه وتاريخ مدينته وتاريخ العراق كلّه، ولم يطّلع عليها هذا الرّحالة، فيما يبدو، فقد غزا الوهابيّون القادمون على جمالهم من أرض نجد مدينةَ كربلاء ومرقد الإمام الحسين في يوم عيد الغدير، مستغلّين توجّه معظم سكّانها لزيارة مرقد الإمام علي بالنجف، فاجتاحوا المدينة ونهبوا مرقد الإمام الحسين وخرّبوه، وقتلوا مَن وجدوا من أهل كربلاء أمامهم، وكانت واقعة مؤلمة، وانتهاكاً فظيعاً لقدسيّة المدينة، ومجزرة مروّعة هزّت وجدان العراقيّين كلّهم، فتنادوا لحماية مشهد الإمام علي الذي كان متوقّعاً أن يكون هدفاً لغارة ثانية، وكان للموصل وقفتها المشرّفة في الدفاع عن النجف ومرقد الإمام علي، ويذكر المؤرّخ الموصليّ ياسين العمري في أحداث سنة 1217هـ= 1801م من كتابه "غاية المرام في تاريخ محاسن بغداد دار السلام"، ما نصّه: "أرسل والي الموصل محمّد باشا الجليلي مائتين وخمسين رجلاً من أهل الموصل لمحافظة مشهد الإمام علي- رضي الله عنه- فساروا من بغداد"، وكان من نتيجة تنادي العراقيّين للدفاع عن النجف، أن ردعت المهاجمين عن تحقيق هدفهم الشنيع.
وقد زار أبو طالب خان مدينة كربلاء، ووقف على ما تركه الاعتداء على حرمة الإمام الحسين من ألم وآثار نفسيّة عميقة على أهل كربلاء خصوصاً، وما خلّفه هذا الهجوم على المدينة وزوّارها من مآسٍ، وخسارات فادحة في الأرواح والممتلكات، ومنهم عمّتا الرحّالة نفسه، اللتان صادفهما هناك وقد خسرتا في تلك الواقعة كلّ ما تملكان من مالٍ وحليّ، فساعدهما بما قدر عليه.
لكي يعود لموصل اليوم ربيعاها
واليوم، وبعد 218 عاماً على مرور ذلك الرّحالة بالمدينة، وقوله في نخبتها ما قال، تبدو الموصل- وخصوصاً الجانب الأيمن منها- وكأنّها خرجت للتّو من معركة تحريرها من مسوخ تنظيم داعش الإرهابيّ، التي جرت قبل ثلاثة أعوام، فما زالت أكوام الخرائب والأنقاض تغطي المدينة القديمة، ويعاني سكّانها من نقص الخدمات، وصعوبة التكيّف مع ما حلّ بها من دمار هائل.
تحتاج هذه المدينة لكي تنهض مجدداً، بجانبيها وجسورها وأحيائها ومؤسّساتها وضواحيها، إلى همّة مخطّطين ومهندسين وبُناةٍ، مشابهة لهمّة الجنود الموصليّين الذين دافعوا عن النجف ومرقد الإمام علي سنة 1801م، ومماثلة لهمّة مقاتلي العراق وفدائيّة شبابه، ومعظمهم من المحافظات الوسطى والجنوبيّة، وهم يحرّرون الموصل سنة 2017 مستوحين نبل عراقيّتهم، وشبيهة أيضاً بهمّة هؤلاء الشباب أنفسهم حين اكتظّت ساحات الاعتصامات بسلميّتهم ورفرفة أعلام بلادهم، مطالبين باستعادة وطنهم لعافيته من غول الفساد، بعد أن حرّروا مدنه من غول الإرهاب وصانوا حدود بلادهم.
ويبقى الرهان قائماً على أحفاد أولئك الرجال الموصليّين الذين أبهروا الرحّالة أبا طالب خان بذكائهم وتهذيبهم وقدراتهم الفذّة، فهم أهل لأن يكونوا في صدارة بناة مدينتهم وبلادهم، فبوفاء هؤلاء الأحفاد- من الجنسين- لموصلهم وعراقهم وصدق انتمائهم المشهود لهما، وبتعاون الجهات الحكوميّة والدوليّة الساندة معهم لتمكينهم، وبإسهاماتهم التطوعيّة ومبادراتهم الخلّاقة وتفانيهم في تسريع خطوات الإعمار، سيعود عمّا قريب للموصل الساحرة ربيعاها.