الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سيسيولوجيا الفوتوغراف.. الصورة بوصفها خطابًا اجتماعيًا وذاكرةً بصريةً للواقع


سيسيولوجيا الفوتوغراف.. الصورة بوصفها خطابًا اجتماعيًا وذاكرةً بصريةً للواقع

اسعد يوسف الصغير

 

لم تعد الصورة الفوتوغرافية مجرّ د أثر بصري جامد يوثق لحظة عابرة، بل تحوّ لت في  العصر الحديث إلى خطاب مركزي يعيد تشكيل وعينا بالواقع، ويشارك بفاعلية في  إنتاج المعنى، وبناء الذاكرة، وصياغة القيم والتمثيلات الاجتماعية. من هنا نشأت سيسيولوجيا الفوتوغراف بوصفها حقلا معرفيا يتواشج مع علم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، ونظريات الاتصال، والدراسات الثقافية، لفهم الصورة الفوتوغرافية لا بعدها انعكاسا آليا للواقع ، بل كمنتَج اجتماعي مشبع بالإيديولوجيا والسلطة والمعرفة.

فالصورة لا تُلتقط بمعزل عن سياقها، ولا تُستقبل بوعي محايد، بل تمرّ عبر شبكات من القيم، والمصالح، والرموز، والسلطات الاجتماعية. إنّها وثيقة بصرية تحمل في  بنيتها ما هو أعمق من مجرد “المشهد” ، إذ تختزن التراتب الطبقي، والهوية الثقافية ، والتمثيلات الجندرية، والصراعات السياسية، وأنماط الاستهلاك، والهيمنة الرمزية.

تشير سيسيولوجيا الفوتوغراف إلى دراسة الصورة الفوتوغرافية من منظور اجتماعي، أي بوصفها ممارسة ثقافية ناتجة عن شروط إنتاج محددة ( اقتصادية، تقنية، سياسية) ، وتُستهلك داخل أنساق اجتماعية لها قيمها ومرجعياتها الخاصة. فهي لا تهتم بالسؤال الجمالي وحده، بل تذهب إلى ما وراء الشكل لتفكّك شبكة العلاقات التي تصنع الصورة وتمنحها دلالتها.

 

وقد أسهم مفكرون مثل عالم الاجتماع الفرنسي بير بورديو في  تأسيس هذا الحقل حين اعتبر التصوير ممارسة اجتماعية مرتبطة بالذائقة الطبقية، حيث تختلف أنماط التصوير بين العائلات البرجوازية والطبقات الشعبية. كما أسهم الفيلسوف رولان بارت في  كشف البعد الدلالي للصورة عبر مفهومي الاستوديوم  والبونكتوم ، حيث يتجاور المعنى الثقافي  العام مع الأثر الشخصي الصادم.

لطالما سُوّ ق للفوتوغراف بوصفه أصدق أشكال التمثيل، كونه يعتمد على الأثر الضوئيالمباشر. غير أن السيسيولوجيا تفكك هذا الادعاء، معتبرة أن الصورة لا “تنقل” الواقع، بل “تعيد صياغته”. فاختيار زاوية التصوير، والإضاءة، واللحظة، والإطار، والمسافة، كلّها قرارات ذات طابع ثقافي  وإيديولوجي.

إنّ صورة الفقير او المشرد في  الشارع مثلا قد تُقدَّم بوصفها وثيقة إدانة اجتماعية، أو بوصفها مشهداا  استعراضياا  يكرّ س  الشفقة،  أو  حتى  باعتبارها “مادة جمالية” منزوعَة السياق. هنا يتحوّ ل التوثيق إلى تمثيل، ويتحوّ ل الواقع إلى خطاب يخضع لمنظومة سلطة.

ترتبط الصورة الفوتوغرافية منذ نشأتها بالسلطة. ففي  القرن التاسع عشر استُخدمت الصور في   تصنيف  الشعوب،  وتكريس  الفوارق  العرقية،  وضبط  الأجساد  داخل  المنظومات الاستعمارية. وكانت الصور الجنائية، وصور السجون، وصور الأعراق، أدوات بصرية لإنتاج “ المعرفة السلطوية”.

وفي  العصر الراهن، لم تعد السلطة محصورة في  الدولة، بل امتدت إلى الشركات الكبرى، والمنصات الرقمية، ووسائل الإعلام العملالة. الصورة اليوم تُستخدم في  صناعة الرأي العام وتوجيه الذائقة وتسليع الجسد وتطبيع العنف وإعادة إنتاج الصور النمطية. إنّ الصورة ليست بريئة، بل تعمل غالباا بوصفها أداة رمزية للهيمنة الناعمة.

 ان من أخطر وظائف الصورة الفوتوغرافية دورها في  تشكيل الهوية الفردية والجماعية. فالإنسان الحديث يعرّ ف ذاته عبر الصور فصور البروفايل و صور الإنجازو صور الجسد و صور الفرح وصولا الى   صور الاحتجاج. لم تعد الهوية تُبنى عبر السرد الكلامً وحده، بل عبر التمثيل البصري للذات.

في  المقابل، تلعب الصورة دورا مركزيا في  تمثيل “الآخر”. فكيف تُصوَّ ر المرأة؟ كيف يصوَّ ر اللاجئ؟ كيف يصوَّ ر العامل؟ كيف يصوَّ ر الجسد المختلف؟ هذه الصورلا تعكس الواقع فحسب، بل تُعيد إنتاج علاقات القوة داخله. الصورة التي تكرّ س المرأة بوصفها جسدا استهلاكيا، أو اللاجئ بوصفه تهديداا ديموغرافياا، أو الفقير بوصفه مشكلة اجتماعية، ليست صورة بريئة، بل خطاب بصري مشحون بالإقصاء .

تلعب الصورة دورا جوهريا في  بناء الذاكرة الجماعية. فالحروب، والثورات، والكوارث، واللحظات التاريخية الكبرى، لا تُحفظ في  وعينا عبر النصوص وحدها، بل عبر الصور التً تختزل الحدث في  لحظة بصرية رمزية.

فصورة الطفل اللاجئ، وصورة الجندي المهزوم و صورة الحشود في  الساحات و صورة المدينة المدمّرة هذه الصور تصبح علامات فارقة في  الذاكرة تتجاوز الحدث نفسه، وتعيد تشكيل سرديتنا عنه. لكن الإشكالية تكمن في  أن الذاكرة البصرية تخضع هي أيضاا للانتقاء،

والتلاعب، والحذف. فليس كل ما يوثق يعرض، وليس كل ما يعرض يفهم كما هو. لذا تتحول الصورة من أداة ذاكرة إلى أداة إعادة كتابة التاريخ بصرياا.

في  المجتمعات الاستهلاكية، لم تعد الصورة وسيلة معرفة فقط، بل أصبحت سلعة قائمة بذاتها. تُستهلك الصور بسرعة، وتُستبدل بسرعة، وتُفرغ من معناها عبر التكرار المفرط. إننا نعيش ما يمكن ان نسميه بـ” التضخّم الصوري”، حيث تُنتَج ملاين الصور يومياا، فتفقد الصورة فرادتها وقيمتها الرمزية.

يرى بعض المنظّرين في  هذا المجال أن هذا " التسونامي" الصوري أدّى إلى

تسطيح التجربة الإنسانية وتحوّ ل الألم إلى مادة استهلاكية كما تحوّ لت المأساة إلى عرض بصري وتلاشي الحدود بين المهم والهامشي فالصورة التي كانت تهزّ الضمير الانساني يوما ما أصبحت تُقلب بالإبهام خلال ثوانٍ .

تلعب الصورة السياسية دورا  حاسما في  تشكيل الوعي العام. فصورة واحدة لد تُشعل ثورة، أو تُسقط نظاما، أو تُحرّ ك تعاطفاا عالمياا. لكن في  المقابل، يمكن للصورة أن تكون أداة تضليل خطيرة حين تُقتطع من سياقها، أو تُفبرك رقميا، أو تُستخدم ضمن حملات دعائية.

 

إنّ سيسيولوجيا الفوتوغراف تدرس هنا كيف تُصنع الصورة السياسية؟ ومن يملك حق إنتاجها؟ ومن يحدد طريقة تداولها؟ ومن يتحكم في  قراءتها؟ فالصورة السياسية ليست مجرد “حدث مرئي”، بل هي ساحة صراع رمزي بينقوى متنافسة.

يشكل الجسد احد أكثر المواضيع التي اشتغلت عليها الصورة الفوتوغرافية. فالجسد هو الحامل الأول للهوية، والمسرح الأوضح للسلطة، والمجال الأوسع للضبط الاجتماعي.

فمن خلال الصورة يمكن تسليع الجسد الأنثوي وفرض معاير جمالية قسرية كما يمكن تصنيف  الأجساد  إلى  صالحة واخرى  غير  صالحة  وايضا  يمكن  إعادة  إنتاج  التمييز الجندري. ومن خلال شبكات التواصل، تحوّ ل الجسد إلى مشروع عرض دائم، يخضع لاقتصاد الإعجاب، وعدد المشاهدات، والتقيم الرمزي. ومع التحوّ ل الرقمي، سقطت إحدى أهم مسلّمات الصورة التقليدية اليقين الفوتوغرافي  او الحقيقة . فلم تعد الصورة دليلا قاطعا على وقوع الحدث،  بعد أن أصبحت قابلة للتلاعب بلا حدود عبر الذكاء الاصطناعي والفبركة العميقة هذا  التحوّ ل أحدث هزة كبيرة في  الصحافة والقضاء مرورا  بالتوثيق التاريخي و الثقة الجماعية بالصورة. وهكذا دخلنا متاهة التشكيك او  الشك البصري، حيث لم تعد العين قادرة وحدها على التميز بين الحقيمقي والزائف.

في  مجتمعاتنا العربية، تتقاطع سيسيولوجيا الفوتوغراف مع اعتبارات دينية وربما طائفية ، وأعراف اجتماعية، وبُنى سياسية مغلقة. فالصورة غالبا ما تُقابل بالحذر، والريبة، وأحيانا بالتحريم، وأحياناا أخرى بالتوظيف الدعائي.

وهنا تبرز إشكاليات كبرى مثل الخوف من التصوير والرقابة الرسمية وتسيس الصورة وتحجيم الصورة النقدية وتسليع الصورة في  الإعلانات على نحو فاقع. ومع ذلك، لعبت الصورة دورا  مهما في  كشف القمع، وتوثيق الاحتجاجات والتظاهرات ، وكسر احتكار الرواية الرسمية للسلطة، خصوصا بعد انتشار الهواتف الذكية.

في  الفن، لم تعد الصورة الفوتوغرافية مجرد أداة توثيق للأعمال، بل أصبحت وسيطا تشكيليا مستقلا له لغته ومفاهيمه الجمالية. كما تحوّ لت إلى مادة فلسفية لدراسة العلاقة بين الحقيقة والتمثيل، وبين الشكل والمعنى، وبين الرؤية والسلطة.  فالفنان المعاصر لم يعد يصوّ ر “ما يرى” فقط، بل ما “يراد له أن يرى”، وما “يمنَع أن يرى”، وما “يخفى عمدا عن الرؤية”.

البونكتوم: هو مصطلح نقدي كتبه الفيلسوف الفرنسي رولان بارت في  كتابه الغرفة المضيئة لوصف تلك التفاصيل الصغيرة والمفاجئة في  صورة فوتوغرافية التي تحترق المشاهد وتتسبب في  الم عاطفي  او انزعاج او اثارة شديدة.

استاذ مساعد في  كلية الفنون الجميلة /جامعة بغداد


مشاهدات 83
الكاتب اسعد يوسف الصغير
أضيف 2025/12/16 - 3:26 PM
آخر تحديث 2025/12/17 - 9:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 277 الشهر 12333 الكلي 12996238
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/17 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير