الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هل يمكن للمتهم أن يصبح القاضي؟ أزمة استقلال العدالة الانتقالية في سوريا

بواسطة azzaman

هل يمكن للمتهم أن يصبح القاضي؟ أزمة استقلال العدالة الانتقالية في سوريا

عاصم أمين

 

في المشهد السوري المثقل بالدماء والانقسامات، برز منذ بداية الحراك الثوري ، مفهوم العدالة الانتقالية كأحد الأعمدة الأساسية لأي مشروع وطني يهدف إلى إنهاء حقبة القمع والاستبداد والاجرام الاسدي وإرساء قواعد دولة القانون. فالعدالة الانتقالية لا تعني الانتقام ولا الاقتصار على محاسبة طرف دون آخر، بل هي عملية شاملة تضمن كشف الحقيقة، محاسبة الجناة، تعويض الضحايا، والإصلاح المؤسسي بما يعيد الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة. من دون هذا الركن الأساسي، فإن أي تسوية سياسية ستظل مجرد اتفاق هش، يفتقد الشرعية الشعبية ولا يحمل ضمانات الاستقرار السياسي والاجتماعي والسلم الأهلي المستقبلي.

لكن ما يُطرح اليوم من قبل سلطة الأمر الواقع المؤقتة في سوريا تحت مسمى "هيئة للعدالة الانتقالية" في الواقع لا يعدو كونه شكلاً فارغاً من المضمون، أقرب إلى مسرحية سياسية استخباراتية تستهدف تجميل صورة سلطات الأمر الواقع أكثر من استهدافها تحقيق العدالة نفسها. هذه الكيانات او الهيئات المعلنة بقرارات فوقية  ملتبسة، دون توافق ومشاركة سياسية وقضاء مستقل وهيئات منتخبة بحيادية من قبل السلطة القانونية نفسها و دون مشاركة حقيقية من الضحايا أو ممثلي ولجان المجتمع المدني المستقل، لا يمكن النظر إليها إلا بوصفها مهزلة قانونية وسياسية، لأنها تفتقد للاستقلالية والتمثيل، وتتحول إلى أدوات طيّعة بيد من يسعون إلى شرعنة سلطتهم بدلاً من الخضوع للمحاسبة.

المفارقة الكبرى تكمن في أن من يعلن نفسه وصياً على العدالة الانتقالية(سلطة الامر الواقع) هم أنفسهم أحد أبرز المطلوبين للمثول أمام المحاكم الدولية والوطنية والاقليمية على السواء وجميع قادة الفصائل المنضوية تحت لوائه والتي ارتكبت مجازر وابادة بحق العلويين في الساحل السوري وبحق طائفة الموحدين في مدينة السويداء وآخرها التهجير القسري والتغيير الديمغرافي  في دمشق وحمص وبقية المحافظات التي يطالها تلك السلطة. فالعدالة الانتقالية لا تستثني أحداً: تشمل كل من تورط في القتل الجماعي، التعذيب، التهجير القسري، والإخفاء القسري، سواء كان من قادة النظام الاسدي السابق الذي حكم البلاد بالحديد والنار لعقود، أو من أمراء الحرب والفصائل التي حولت المعركة من ثورة شعبية إلى صراع نفوذ مسلح، أو من أمروا أو نفذوا جرائم ضد المدنيين تحت ذرائع مختلفة. لا حصانة في العدالة الانتقالية، ولا استثناءات، لأن جوهرها قائم على المساواة أمام القانون، وإلا تحولت إلى أداة انتقائية وفقدت معناها.

إن اختزال العدالة الانتقالية في هيئة شكلية منتقاة ومختارة اعضائها بعناية طائفية وولائية بهدف تسييسها ، هو إنكار لحقوق مئات آلاف الضحايا الذين دفعوا أثماناً باهظة من حياتهم وحياة أحبائهم . هؤلاء لا يبحثون عن لجان بُنيت على الولاءات الطائفية أو السياسية، ولا عن مقاعد تمنح لموالين للسلطة القائمة، بل عن مؤسسة حقيقية قادرة على تمثيل صوتهم، توثيق معاناتهم، وضمان ألا يفلت القتلة من العقاب. فالضحايا لا تهمهم البيانات ولا الخطابات، بل يرغبون برؤية سجون فتحت للتحقيق مع كل من تلطخت أيديهم بالدماء، وقاعات محاكم تستمع لشهاداتهم بكرامة، وإجراءات تعويض تحفظ لهم شيئاً من العدالة المفقودة.

العدالة الانتقالية في سوريا لا يمكن أن تتحقق عبر الانتقائية أو الحذف المتعمد لبعض الجناة من قوائم الملاحقة. فالمعادلة واضحة: من ارتكب جرائم بحق السوريين يجب أن يمثل أمام القضاء، سواء كان يرتدي بزّة عسكرية أو عباءة دينية أو بدلة رسمية. لا فرق بين من أعطى أوامر القصف العشوائي ومن أشرف على التعذيب في السجون أو من نفذ عمليات قتل جماعي بحق المدنيين. جميعهم، دون استثناء، يجب أن يكونوا تحت مظلة المحاسبة القانونية.

إن تحويل العدالة الانتقالية إلى أداة بيد المتورطين أنفسهم هو جريمة ثانية بحق الضحايا. لأن من يقف على رأس سلطة الأمر الواقع المؤقتة، وهو نفسه متهم بجرائم حرب، لا يمكن أن يتحول فجأة إلى حكم عادل أو إلى ضامن لحقوق الناس. بل إن ذلك يكرس منطق الإفلات من العقاب ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستبداد. ولا يمكن بأي حال أن يُطلب من الضحايا الوثوق بمن ساهم في مأساتهم ليكون هو المرجع في إنصافهم.

بناء عدالة انتقالية حقيقية يتطلب إرادة وطنية جامعة، وآلية مستقلة تنبثق من توافق شعبي شامل، وليس من قرارات فوقية أو صفقات سياسية. يتطلب إشراك المنظمات الحقوقية المستقلة، أصوات الضحايا، وممثلي جميع المكونات المجتمعية، على قاعدة الشفافية والعلنية، وبضمانات قانونية تحميها من أي تدخل سلطوي. الأهم أن يضمن هذا المسار ألا يبقى أي مسؤول سياسي أو عسكري أو أمني فوق المساءلة، وأن يترسخ مبدأ المحاسبة كقيمة وطنية قبل أن يكون مجرد إجراء قضائي.

في النهاية، لن تكون العدالة الانتقالية في سوريا مشروعة أو ذات معنى إذا اقتصرت على بعض الجناة وتجاهلت آخرين. فهي إما أن تشمل جميع المسؤولين عن الجرائم، بدءاً من النظام الذي أرسى بنية الاستبداد على مدى عقود، مروراً بالفصائل المسلحة التي ارتكبت انتهاكات جسيمة، وصولاً إلى كل من تورط بسفك الدم السوري، أو أنها ستبقى وهماً يخدم مصالح القتلة على حساب آلام الضحايا. الطريق نحو سوريا جديدة لا يمكن أن يُعبد إلا عبر عدالة لا تستثني أحداً ولا ترحم المجرمين، وعدالة كذلك لا تتحول إلى شعارات للاستهلاك السياسي، بل إلى مسار حقيقي يُنصف المظلومين ويمنع تكرار المأساة.

 

 

 


مشاهدات 1351
الكاتب عاصم أمين
أضيف 2025/09/02 - 3:29 PM
آخر تحديث 2025/09/18 - 8:17 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 11 الشهر 13061 الكلي 12030934
الوقت الآن
الجمعة 2025/9/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير