لَوَتْ عُنُقَ التّاريخِ.. كولاج تأويل رواية (الأدميرال لا يحبُّ الشاي) لنزار عبد الستار.
علي شبيب ورد
مفتتح:
لا يمكن للكاتب أن يعرفَ كلَّ شيءٍ عن كتابه، على الرغم من أنه قبل التدوين، قد ينتهي تماما من تهيئة جميع استحضاراته، المتعلقة بجمع ما يلزمه من متطلبات لإنجاز المخطوطة والطباعة والتسويق. غير أنه يظل في قلق الانتظار لمعرفة رأي المتلقي، بعد عملية الاتصال والتلقي التي تكشف لهُ مدى تأثيره الإيجابي على المتلقي، كي تتحقق جدوى الكتاب. والكاتب الجاد والمجتهد، يأمل بمتلقٍ كفوءٍ في قدرته على قراءة ما بين سوادِ الكلماتِ، وما ورائِه، نشدانا لإثراء نصوص الكتاب، وذلك بالإفادة منها، لإنتاج نصوص تأويل ما بعد القراءة. لذا فالتفاعل التّخادمي المحتمل بين الكاتب والمتلقي- من خلال نصوص الكتاب ونصوص التأويل- لن يتمَّ أبدا إلّا بالبحث المعرفي المتبادل بين طرفي معادلة الاتصال والتلقي. وهذا ما أشار اليه (إيتالو كالفينو) بقوله (أنا أنتظر من القُرّاء أن يقرأوا في كتبي ما لم أكن أعرفهُ. لكنَّني لا أتوقعُ ذلك إلّا من قُرّاءٍ يتوقعونَ قراءةَ ما لمْ يكونوا أيضا يعرفونهُ)1.
وانطلاقا من هذا الفهم، المتعلق بالعلاقة الاتصالية بين الكاتب والمتلقي، من خلال نصوص الكتاب، نعمد الى إجراءِ تنقيبٍ فاحصٍ لكتاب رواية (الأدميرال لا يحبُّ الشاي) للروائي (نزار عبد الستار) وذلك وفق أربعة كولاجات تأويل، وإيماءاتٌ للمشغل السردي، وملحق رؤيوي، وكما يلي:
بداية ونهاية الرواية/ كولاج تأويل أول:
تبدأ الرواية بعنوان يشير الى الشخصية الرئيسية (عزيز لانكستر) بكونه لا يحب الشاي، وهذا العنوان يدفعنا الى أن نسألَ بسخرية: ماذا يحب الأدميرال؟ وبعد اطلاعنا على متن الكتاب، نجيبُ دون لبسٍ يذكر، إنه يحب الدم. كونه بعد سِفْرِهِ الدموي في تجارة الأفيون، والتي نفي بسببه الى البصرة، يتلذذ في مواصلة جرائمه دفاعا عن تجارة الشاي -الذي لم يسمع به- ضد تجارة القهوة. بينما تميزت الرواية بنهاية مفتوحة، حيث يدخل الصيني السيد (هاي شينغ) على (عزيز لانكستر) وهو يحمل نفس (مسدس كولت) الذي سبق (لعزيز) أن قتل به (الأدميرال الفرنسي رينيه ديدرو) ولبس بدلته. وقبل ان يُقرِّبَ الصيني فوّهة المسدس لجبهة (عزيز) قال له: (هذا لأجل الصينيين الذين قتلتهم بالأفيون سيدي الأدميرال) فردَّ عليه (عزيز) متسائلا: (يبدو أنَّ السيدة بريطانيا لم تسامحني) لتنتهي الرواية دون إطلاقِ رصاص، كي يشركنا الروائي بابتكار نهاياتٍ أخرى، لروايةٍ تناولت شخصيةً مجرمةً دوليا، لا تحب شرب الشاي، بل تحب شرب الدم.
الشخصية وعقدة الانتماء/ كولاج تأويل ثانٍ:
الشخصية الرئيسية (الأدميرال عزيز وفي لانكستر آل السفّان) لا يتذكر من ماضيه، سوى أنه (وُلِدَ في مخزن خشب بحوض برنسفيك للسفن في لندن عام 1797 لأبٍ بصري مجهول النسب يدعى وفي، وأمٍ هندوسيَّة من جانسي اسمها آكشي) ص39. وقد شكل هذا الغموض لديه، ما يمكن أن نسميه (عقدة الانتماء) فحاول اثبات إخلاصه لبريطانيا، بالإفادة من تربية وتوجيهات أبيهِ بالتبني (تشارلز لانكستر) الذي كان مدير حسابات الشركة. لذا مارس (عزيز) أبشع الجرائم لينال رتبةَ ضابطٍ، لأن مدراء الشركة أخبروه (أنَّ الخدمة في الهند ستجعله ضابطاً، لكنَّ ذلك كان خدعة مغمسة بالسكَّر، فلم يكن ممكناً للذين أصولهم غير إنكليزيَّة نيل هذا الشرف) ص46. لهذا تحول الى كائن دموي مقيت، ومجرم متطرف في الحروب الاحتكارية للتاج البريطاني، من خلال شركة الهند الشرقية البريطانية. والكتاب يوضح لنا، أنه شخصية هزيلة ومخدوعة ومؤذية لمن حولها، وتكشف عن الوجه القبيح للدول الغربية التي بنت رخاءها على حساب الشعوب الشرقية.
الأحداث والمخيلة السردية / كولاج تأويل ثالث:
الرواية الماثلة أمامنا، تناولت أحداثا وقعت خلال الحرب التجارية الدموية لشركة الهند الشرقية البريطانية في القارة الآسيوية. بعد نفي بطل حرب تجارة الأفيون (عزيز) للبصرة عام 1843، ليستعيد نشاطَه الدموي من جديد في حرب تجارة الشاي. وحركة سرد الأحداث، تجري من خلال مخيلةٍ ساردٍ واعٍ ظانٍّ بالأحداث، ومُسائِلٍ لها، فعرضَ لنا من الأحداث ما هو صالح لتنامي إيقاعِ السردِ سيميائيَّا ودلاليَّا، والمتن أكَّدَ كفاءة الروائي، الناتجة عن دربة مران وخصوبة خزين معرفي، وذلك في جمل سردية شتى ذات ثراء أدائي تهكمي واخز. في (قاتلْ بشدة من أجل الثراء. المال هو الذي سيجعلك أدميرالاً حقيقياً وليس بدلة المهرج الفرنسيَّة هذه. أخلاقك هي مصالحك، وشرفك هو الالتزام بالصفقات، وخيرك تجارتك الناجحة. الكتب المقدسة كتبت للفقراء، فلا تلتفت إليها)73. أو (ما قيمة حياتك إنْ لم تكن جسداً متفسخاً في قبرٍ محترمٍ؟ نابليون الآن جثة خالدة، وحتى لو أزَلتَ فرنسا من الأرض ستبقى عفونةُ هذا الرجل أبديَّة) ص75.
تشظّي الفضاء الروائي/ كولاج تأويل رابع:
الفضاء الأدبي عموما، ينظر له الآن (أكثر من مجرّد مكان ثابت أو ظرف زمكاني، إنه يتضمّن المناظر الطبيعية، كما الظروف المناخية، والمدن، والحدائق والغرف. وهو في الحقيقة، يتضمن كلَّ شيءٍ يمكن أن يُعدَّ حيّزا تشغله الأشياء أو يقيم فيه الأشخاص)2. لذا فإن فضاء الرواية الماثلة، لا ينحصر في المكان الذي تتحرك فيها الشخصيات في الزمان المعين، بل يمتدُّ الى أمكنة وأزمنة أخرى. فالشخصية ربما تنتقل خلال حوارها، الى فضاءٍ سردي أوسع مكانيا وزمانيا، كما في هذا المجنزأ (– عندما نبدأ تجارة الشاي هل علينا أنْ نصلي للربّ ونشكره؟ / ردَّ الأدميرال بتشنجٍ: – لا تأكل الخراء يا عقل الأرنب. هل كنا نشكر الرب ونحن نتاجر بالأفيون؟ / – كلا يا سيدي. / – إذا أدخلتَ الربَّ في تجارتك، فسيطالبك بحصتِه) ص144. والروائي وفق معرفتنا بتجربته الروائية، واطلاعه على تحولات السرد الروائي الآن، قطع شوطا ملموسا في تجاوز عراقيل تحرر جميع عناصر السرد الروائي، وفق فضاءٍ روائيٍّ منفتحٍ جماليا وانسانيا دون قيود.
إيماءاتٌ للمشغل السردي:
قبل فوات الأوانِ، من الضروري تدوين حزمة إيماءات لأهم ملامح اشتغال الكاتب في هذه الرواية، وكما يلي:
- المتن الروائي تناول كل ما هو فعل انساني، وبحرية دون تمييز بين هذا الفعلِ أو ذاك، وبالأخص تجاوزه مثلث التحريم الأزلي (السياسة/ الدين/ الجنس).
- دخول الروائي لمناطق ربما تكون مهملة عراقيا، والمتعلقة بوثائق تاريخ الاستعمار والاحتكار العالمي، لذا فالرواية تحولت الى نص عالمي لإدانة عدوان الغرب على الشرق.
- لمسنا جمالية اللغة السردية، في التعبير عن لوعة الجسد، بين عزيز لانكستر وماريكا، (كانت ثقوبها تنتفض عليه في وقتٍ واحدٍ كعاصفة تريد أكل مركب صيد، وحين يراها في الصالة قاسيةً كطعنة، ومقفولةَ الشفقة، وقاطعةً مثل الكتاب المقدس، تتملكه الإثارةُ وينتصب إجرامه، ويرغب في تأديب عهرِها، وقضمِ حلمتي ثدييها الكبيرين بأسنانه البتّارة) ص64.
- الروائي دَكَّ جبروت التاريخ، وَلَوى عُنُقَهُ بمجسات تنقيب فاحصة ذات بصيرة عبقة، جعلته ينساب طيِّعا في مسارب أنساق السرد.
- نجح الروائي في اغواء المتلقي على التواصل القرائي عبر سياق سردي يتوفرُ على بلاغة تشويقٍ قرائي وتأويلي.
- كشفت لنا الروايةُ في المتجزأ أدناه، أن المستعمرين يستغلون ((المعتقدات الغبية)) لدى بعض الشعوب لخداعِهم، ثمَّ استعمارهم والتحكم بمصائرهم. (إنَّ الشعوب المتخلفة تكون غنيَّة بالمعتقدات الغبيَّة، لذلك توجد دائماً فرصة سانحة لخداعهم بدل التورط بجرائم لا تجلب سوى محاكمات مضللة يبتدعها الخصوم، ويصدّقها مدّعو الشرف) ص74.
ملحقٌ رؤيويٌّ:
من خلال قراءتنا وتأويلنا لكتاب رواية (الأدميرال لا يحب الشاي) للروائي نزار عبد الستار. توصلنا الى أن الروائي قرأ (نص التاريخ) ببصيرة ثقافية (أدبية تحديدا) منقِّبةٍ ومؤوّلةٍ، وكاشفةٍ عن المغيَّبِ، وطاردةٍ للمزيَّفِ، وعابرةٍ للممنوعاتِ، ومدونةٍ في الفراغاتِ. لخلقِ (نص روائي) فيه عالمٌ جديدٌ، متحرّرٌ من أغلال الماضي، ويتحلّى برؤى ناصعةٍ، وتطلعاتٍ إنسانيةٍ مشروعةٍ، لحياةِ رخاءٍ وبهجةٍ. وهذا (النص الروائي) المتجدد في حداثته، لن يتمَّ دونَ خيالٍ فائقٍ في كفاءتِه وشساعةِ رؤاه، وفي طاقاتِ ابتكارٍ حازمةٍ في هدم كلِّ ما نمتلك وما نعلم وما نحنُ عليه. -حسب مارشال بيرمان- في قوله (أن نكون حداثيين يعني أن نجدَ أنفسَنا في بيئةٍ تَعِدُنا بالمغامرة، والقدرة، والمتعة، والارتقاء، والتحوّل المستديم في ذواتنا وفي العالم حولنا معا، وفي الوقتِ ذاته فإنَّ الحداثةَ تهدِّدُنا بتدمير كلِّ ما نمتلك، وكل ما نعلم، وكل ما نحنُ عليهِ)3. إنّها روايةٌ لَوَتْ عُنُقَ التّاريخِ بعنفوان الخيال، ومكّنتنا من رؤية العالم بوعيٍ منقِّبٍ، ثمَّ تأويلِهِ بفطنةٍ وجرأةٍ.
--------------
إشارات:
1- كتاب (جمالية التلقي) هانس روبيرت ياوس/ المجلس الأعلى للثقافة/ القاهرة 2004/ ط1/ ص95.
2- كتاب (علم السرد) مدخل الى نظرية السرد/ يان مانفريد/ ترجمة أماني أبو رحمة/ دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع/ دمشق 2011/ ط1/ ص128.
3- كتاب (تطوّر الرواية الحديثة) جيسي ماتز/ ترجمة: لطفية الدليمي/ دار المدى للإعلام والثقافة والفنون.