الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العزي.. طير يروي مأساة الغربة والوطن

بواسطة azzaman

العزي.. طير يروي مأساة الغربة والوطن

احمد جاسم الزبيدي 

 

يقال في العراق إن أصغر الأبناء هو “آخر العنقود”، مدلل الأم وبهجة البيت. كنت أنا ذلك الابن المدلل لوالدتي، ابنة الريف القادمة من قرية “بِتة وهبي”، التي حملت في قلبها طيبة الأرض وكرم البساتين.

 في طفولتي، حين لم يتجاوز عمري أربع سنوات، أخذتني والدتي إلى أقاربها، وهناك رأيت طيرًا من الحمام أعجبني. بكيتُ حتى منحوني إياه، وعدتُ به إلى المحاويل كمن عاد من سفر بكنز لا يُقدّر بثمن. صنعت له بيتًا صغيرًا بمساعدة خالي عبيد النجار، وبدأت علاقتي الخاصة بهذا الطير، الذي صار جزءًا مني. سمّيناه “العزي”، رمزًا لقوة الحضور والاعتداد بالنفس.

 ومع مرور الأيام كبر “العزي”، وجلبتُ له أنثى، فكوّن عائلته، وبدا لي وكأنه يعيش حياة العراقي البسيطة: بيتٌ صغير، أنثى وفراخ، وشيء من الطمأنينة. لكن كما في حياتنا، لم يُترك “العزي” بسلام. إخوتي حاربوا ولعي بالطيور، ذبحوا بعضها، وتذرعوا بأن “القط أكلها”. ومع كل خسارة، كنتُ أتشبث أكثر بـ”العزي”، فقد كان رمزًا لعالمي الصغير.

 ذات يوم اختفى “العزي” مع أنثاه. بكيتُ طويلًا، لكن أمي ربتت على كتفي وقالت:

«لا تحزن يا ولدي... طيرك بخير. لقد أرسلناه إلى القرية عند أخوالك. الطيور حين تُهدى إلى مكان آخر تُقص أجنحتها لتتأقلم، حتى ينبت لها ريش جديد فيستقرّ حيث قُدّر له أن يعيش».

لكن “العزي” رفض الغربة. لم يقبل أن تُقص أجنحته، ولا أن يعيش بعيدًا عن البيت الذي كوّن فيه عائلته. عاد جريحًا، مدمّى، إلى باحة دارنا، وسقط هناك جثة هامدة. أما أنثاه فقد افترسها القط، لكنه مات في بيته، بين أهله، ليقول بموته ما عجز البشر عن قوله: الغربة موت، والوطن حياة، حتى لو كانت حياة مثخنة بالجراح.

العراقيون... طيورٌ بأجنحة مقصوصة

قصة “العزي” ليست مجرد ذكرى طفولة مع طير حمام، إنها مرآة تعكس حال العراقيين. كم واحدًا من أبناء هذا الوطن هُجّر، قُصّت أجنحته، ليُجبر على التأقلم في منفى بعيد؟ كم من عراقي عاش الغربة بجسدٍ في الخارج وروحٍ معلّقة بباحة الدار الأولى؟

مثل “العزي”، كثيرون رفضوا أن يموتوا غرباء. عادوا – ولو رمزيًا – ليُدفنوا في تراب العراق، حيث الذكريات والجذور. وآخرون ما زالوا هناك، في المنافي، ينتظرون أن ينبت لهم ريش جديد يعيدهم إلى الوطن.

العراق اليوم هو بيتنا الكبير، مهما تقاسمتْه الأزمات والخراب. ومثلما عاد “العزي” ليموت بين أهله، سيعود العراقي – عاجلًا أم آجلًا – إلى بيته الأول، إلى أرضه التي أحبها وأحبته، حتى وإن أثخنته الجراح.

 

 


مشاهدات 87
الكاتب احمد جاسم الزبيدي 
أضيف 2025/08/17 - 4:19 PM
آخر تحديث 2025/08/20 - 2:32 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 353 الشهر 14272 الكلي 11409358
الوقت الآن
الأربعاء 2025/8/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير