دعوا الأطفال على فطرتهم… ولا تجعلوهم وكلاء لله على الأرض
الهام عبدالقادر عبدالرحمن
كيف نحمي براءة الصغار من جحيم التطرف؟
قالت لي ابنتي هيلين جملة ظلّت ترنّ في قلبي أيامًا طويلة:
(كل الأطفال يولدون كفارًا بالفطرة)
قد تبدو هذه الكلمات صادمة لأول وهلة، لكنها في جوهرها دعوة للتفكير. فالطفل حين يولد، يولد بلا دين ولا مذهب، بلا لغة ولا لون ولا هوية سوى هوية الفطرة. هو صفحة بيضاء ناصعة، مليئة بالفضول والحب الفطري للحياة، لا يعرف الكراهية ولا التعصب ولا الأحكام المسبقة. لكننا، نحن الكبار، نبدأ في ملء هذه الصفحة بما نحمله نحن من أفكار، سواء كانت سليمة أو معطوبة.
في أي مكان يولد الطفل، تبدأ عملية التلقين فورًا. في البيت، في المدرسة، في الشارع، يتلقّى رسائل صريحة وأخرى ضمنية عن الدين، عن المجتمع، عن الأخلاق، وحتى عن من يستحق الاحترام ومن لا يستحقه. ومع مرور السنوات، تتحوّل هذه الرسائل إلى حقائق مطلقة في ذهنه، حتى لو لم يفهمها أو يتساءل عن مصدرها.
المفارقة المؤلمة أن هؤلاء الأطفال، حين يكبرون، قد يصبحون أكثر تعصبًا من الذين لقّنوهم. يدافعون عن الأفكار نفسها التي ورثوها وكأنها منقوشة في قلوبهم منذ الأزل، رغم أنها ليست من اختيارهم الحر، بل من صُنع البيئة التي عاشوا فيها.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا لو تركنا الأطفال على فطرتهم النقية، ولم نزرع فيهم منذ البداية خوف الجحيم أو وهم الأفضلية على الآخرين؟
ماذا لو عرّفناهم على الأديان وكأنها قصص إنسانية عظيمة، مليئة بالعِبر، لا صراعات فيها ولا أحكام بالإقصاء، وركّزنا على الحديث عن الخالق المحب، الرحيم، العادل الذي وسعت رحمته كل شيء؟
تخيلوا لو شرحنا لهم أن جميع الأديان تحمل جوهرًا واحدًا: الأخلاق، الرحمة، الصدق، وحب الخير. وأن كل نبي جاء ليكمل رسالة من سبقه، لا لينقضها. حينها، سيكبر الأطفال وهم يرون التنوع الديني والثقافي ثراءً لا تهديدًا، وسيعرفون أن الدين وسيلة للارتقاء بالإنسان، لا أداة لتقسيمه.
لكن الواقع مختلف. ذكره الله تعالي :(كُلُّ حِزْبٍ بمَا لَديْهِمْ فَرِحُونَ) فبدلًا من أن تكون الأرض جنة الرحمن، صارت في أيدي بعض ( وكلاء الله) ، وحولها الى ساحة صراع، جحيمًا من الحروب والكراهية. وقد نسوا أو تناسوا أن الله غني عن عبادتنا، وأن العبادات وُجدت لنرتقي نحن، لا لنعطيه شيئًا. فالعمل الصالح، وحده، هو الذي يميز إنسانًا عن آخر، وما ينفع الناس هو الباقي.
علّموا أبناءكم أن الله لا يحتاج إلى من يدافع عنه، بل نحن الذين نحتاجه لنحمينا من أنفسنا. أخبروهم أن العبادة ليست طقسًا فارغًا، بل وسيلة لشحن الروح بالسلام، للاتصال العميق بالخالق، ولتعلم الصبر والحب. وأن العمل الصالح ليس رفاهية، بل غاية وجودنا على الأرض، وأن قيمته تقاس بمدى نفعه للبشرية.
دعوا أطفالكم يشعرون بحماية الله لا برعبه، بحبه لا بغضبه، بعدالته لا بعقابه فقط. لا تصنعوا منهم قضاة على الناس، ولا تغرسوا فيهم الغرور باسم الدين، ولا تمنحوهم سلطة الحكم على القلوب والنوايا.
تذكروا أن الأطفال انعكاس لأيديكم وعقولكم وقلوبكم. أنتم من يصوغهم، أنتم من يضع البذرة الأولى التي تكبر معهم. فإذا زرعتم الحب والرحمة، أثمروا رجالًا ونساءً نبلاء، يعرفون أن الاختلاف سنة الحياة، وأن أجمل ما في الدين ليس طقوسه، بل جوهره الإنساني الذي يعلّمنا كيف نكون بشرًا قبل أن نكون أي شيء آخر.