الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
إيقاظ الفتنة النائمة

بواسطة azzaman

إيقاظ الفتنة النائمة

شیرزاد نايف

 

نحن في زمن تتسارع فيه المتغيرات وتضيق فيه المساحات المشتركة بين البشر، تبرز بين الحين والآخر جهات تتغذى على ركام التاريخ لا لتدرسه، بل لتبعث فيه رياح الفتنة من جديد، وتغرز أظافرها في جسد المجتمعات التي بالكاد تلملم شتاتها بعد عقود من المحن.

إن ما نشهده اليوم من محاولات إحياء للمواضيع الرجعية، ليس مجرد حنين مشوّه للماضي، بل هو تسبيس مقصود للذاكرة، وتجريد خبيث للحوادث من سياقاتها الإنسانية واختزالها في ثنائيات قاتلة: عربي وكردي سني وشيعي، مسلم وغير مسلم كأنما كل ما يجمعنا لم يكن كافيًا، وكأن الأعوام الطويلة التي تشاركنا فيها الخبز والماء والوجع لا تساوي شيئًا أمام حادث عابر أو مشهد مفبرك تذيعه منصة إعلامية مأجورة.

في العراق، ذلك الوطن المجبول بالتنوع، لم نكن نحس بتلك الفواصل الباردة التي يحاول البعض اليوم أن يرسمها على جدران القلب. لم يكن هناك شيء اسمه الطائفية أو القومية في تفاصيلنا اليومية. كانت البيوت تضم من كل مكوّن زهرة، وكانت الولائم تجمع المختلفين كما يجتمعون حول مائدة الرب في التسامح. بل إن كثيرًا من العوائل - ولا أقول «مختلطة» بل «ممتزجة» - هي نسيج واحد من العرب والكرد والتركمان والآشوريين، لا يُعرف فيها من «الأصل» ومن «الفرع»، إذ لا أصل إلا الوطن ولا فرغ إلا ما نبت من محبته. قبل ايام قالائل وفي لحظة مؤلمة وقعت حادثة في إحدى محطات البنزين، راح ضحيتها « أفراد - عربيان وكردي. أما الجاني، فهو أيضا شاب كردي متهور. ولكن، بدل أن نقرأ المشهد بعين العدالة والإنسانية اندفعت بعض الجهات لتحيله إلى مادة جاهزة لتأجيج الكراهية، وكأن الحم لا لون له إلا حين يُراق على ألسنة المحرضين. ما حدث هو جريمة، والجريمة لا جنسية لها. القاتل ليس ممثلاً لقومية، ولا الضحايا ينتمون إلى ضحية جماعية. لقد اختلط الدم العربي والكردي في ذلك المشهد، كما امتزجت الأرواح في تراب العراق، وتلك هي الحقيقة التي يجب أن تُروى، لا أن تشوه في دفاتر الإعلام الأصفر. في هذا المنوال أنا الآن أكتب، وقلمي يتردد ليس خوفًا من الحقيقة، بل خجلا من أن تؤخذ كلماتي على غير وجهها. أخجل أن يظن بي القارئ سوءًا، أو أن يُقرأ قلمي على أنه دعوة لاصطفاف أو تحريض لأننا – كما تقول الآية العظيمة - لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى». ولأن الشرف الإنساني لا يقاس بالهويات، بل بالمواقف. ومن المواقف النبيلة أن تدين القتل، لا أن نحسبه ضمن ميزان السياسة القذر. فما أخطر أن نوقظ الفتنة النائمة، لا لأنها قوية، بل لأننا نضعف أمامها حين نصمت عن السوء أو نبرر له الفتنة لا تنتصر حين تعلن الحرب، بل حين تهمس في أذن من لم يع الدرس بعد، وتعده بوهم «الانتماء النقي»، ذلك السراب الذي لا يجر وراءه إلا الخراب. فلنحذر ، فإن أخطر الحروب ليست تلك التي تخاض بالسلاح، بل تلك التي تخاض بالكلمات.

 

 

 


مشاهدات 56
الكاتب شیرزاد نايف
أضيف 2025/08/16 - 11:53 PM
آخر تحديث 2025/08/17 - 7:11 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 47 الشهر 12449 الكلي 11407535
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير