أربعون يوماً على رحيل الخالدي وإستذكار لـ (أطراف الحديث): كنا نمثّل من أجل الحب والشغف لا الأجر
عمان - مجيد السامرائي
في حلقة سابقة من برنامج (اطراف الحديث) على (الشرقية حلت الممثلة الراحلة غزوة الخالدي ضيفة على البرنامج، وبمناسبة اربعينيتها نقف عند بعض مما دار في ذلك اللقاء:
قالت الخالدي: (أمي كانت تقرأ كثيرًا وسمتني «غزوة بدر». لكن الغريب أن الجميع يناديني «غزوة أحد»،أنا في الوسط... لا أنتمي تمامًا إلى زمن الطنطل والخرافات، ولا أندمج كلّيًا في هذا العصر بتقنياته وإيقاعه المتسارع. أنا إنسانة متحرّرة ضمن حدود).
كانت تمتلك ذاكرةً فريدة من نوعها؛ يكفي أن تمررّ الورقة أمام عينيها حتى تنطبع الأسطر في ذهنها بدقة مذهلة. والغريب في أمرها أنها تتذكر الأحداث البعيدة في حياتها وكأنها وقعت بالأمس، لكنها تنسى ما قالته لك في اليوم السابق.
تدرك مكنونات النصوص بعمق، وإن وقفت أمام الكاميرا، جسّدت كل جملة مفيدة بجسدها كاملًا، مستعدة للرد على كل سؤال، تُفصح ملامحها عن الرضا أو الغضب دون أن تنطق، ونحن نتجاذب معها أطراف الحديث.
□ بداية، اسمك لافت... هل هو نادر؟ كم غزوة تعرفين في العراق؟
- صراحة قليل جدًا... الغزوات التي أعرفها لا تتجاوز الخمسة أو الستة، وأغلبهن كنّ معي في المدرسة: غزوة القره غولي، غزوة فيصل، غزوة بنت طاهر يحيى، وغزوة أخرى لا أذكر اسم والدها الآن. أظن أن نصفهن اليوم في عمّان!
□ ومن الطريف أن هناك صيدلية قريبة من منزلك باسم غزوة القسوس ...هل تعرفين صاحبتها؟
- لا، والله لا أعرفها... لكني أحب أن أتعرف عليها!
□ الاسم «غزوة» يشي بتاريخ... بدر، أحد، تبوك. أي غزوة سميتِ بها؟
- أمي كانت تقرأ كثيرًا عن غزوة بدر، وسمتني «غزوة بدر». لكن الغريب أن الجميع يناديني «غزوة أحد»!
□ لماذا؟
- لا أعرف! حتى الإعلامي صبري الرماحي والمخرج حسن الجنابي، دائمًا يذكرونني في البرامج: «غزوة أحد». بالتسجيلات، باللقاءات، الكل يقول: «غزوة أحد».
□ أول ظهور لكِ على المسرح، كان محطة اعتراف بك كممثلة... هل اعتبرتها لحظة غرور؟
- أبدًا. كانت السنة الأولى لي في المعهد، وأول مسرحية أشارك بها كانت «الطوفان» عام 1965، من إخراج الأستاذ إبراهيم جلال – الله يرحمه. وكان دوري كبيرًا، ومن خلاله بدأ الآخرون يرونني كممثلة... أما أنا، فلم أكن مقتنعة بعد!
□ لم تكوني مقتنعة؟ معقول؟
- صدقًا... كنت أقول: هل فعلاً أنا ممثلة؟! كنت محتارة، وداخلي لم يكن قد سلّم بعد للفكرة .
□ مع ذلك، يبدو عليك شيء من الاعتداد بنفسك... أو شيء من الغرور.
- غرور؟ لا أظن، لكنه من حقي إن وجد!
□ ننتقل إلى شخصية محورية في مسيرتك: عبد المرسل الزيدي... ما دوره؟
- كان له أثر عميق. كان مشرف نشاط فني، وربما لا يعرف أنه كان السبب في دخولي هذا المجال. في ذلك الوقت، كنت طالبة في ثانوية الحريري، وأهلي لم يسمحوا لي بدخول المعهد. جربت كل شيء: العلمي، الأدبي، التجاري... إلى أن وجدت نفسي أخيرًا في معهد الفنون الجميلة.
دور طويل
□ وما أول دور قدّمتِيه بإشرافه؟
- كان دورًا بسيطًا جدًا، قصير جدًا... لكن يبدو أن في داخلي شيئًا أراد أن ينتقم فنيًا! فدخلت المعهد، وأردت أن أُثبت أني أستحق أدوارًا أطول.
□ إذن، لم يكن الفن في البداية حلمًا؟
- أبدًا... لم أكن أتصور أن الفن سيصير مهنتي. دخلت المجال بدافع شخصي، بدافع المتعة، كشيء يُرضيني... حتى اليوم، ما زال الفن بالنسبة لي وسيلة للفرح.
□ هل هو هواية أم حرفة؟
- أعتبره هواية، رغم أنه صار مصدرًا للعيش. لكني لم أفقد شغفي به، بل هو الذي يحميني من التعب.
□ طيب، هل أصبحتِ مليونيرة من الفن؟
- مليونيرة؟ بمقاييس العراق، نعم! ملايين عراقية... وهذه تعجبني.
□ هل تتذكرين أول أجر حصلتِ عليه؟
- نعم... أول أجر كان دينارين. وبعدها، أتذكر أني مثّلت مع الفنانة زينب الله يرحمها وكان دوري من أول المسرحية لآخرها، بينما هي كانت ضيفة شرف. وعند توزيع الأجور، حصلت أنا على خمسة دنانير، وزينب على دينارين أو ثلاثة... زعلت.
□ ماذا فعلتِ؟
- ذهبت إلى الحجي صمد – لا أعرف إن كان لا يزال على قيد الحياة – وقلت له: ما آخذ الأجر! قال: ليش؟ قلت له: أنا أخذ أكثر من زينب؟! رفضت، وناقشتهم، وفي النهاية فعلاً لم آخذ شيئًا.
□ هل مررّت بمرحلة قلتِ فيها: «لن أعمل إلا إذا دُفع لي كذا وكذا»؟
- أبدًا. والله العظيم، ما قلتها ولا فكرت بها. جماعتنا كانوا يعرفون قيمة الفنان، وأنا كنت أشتغل بمحبة. مشتاقة للكثيرين منهم، وأشعر بالعرفان تجاههم.
□ يُقال إنكِ امرأة قنوع ... هل ترين في ذلك وصفًا دقيقًا؟
- بل وأكثر من قنوع . لم أكن ممن يطلب أو يُلحّ، حتى في أشدّ أيامنا تواضعًا. كنتُ الفتاة الوحيدة من بين إخوتي التي التحقت بالمعهد، والسيارة «الشوفرليت» كانت تقلّني إلى المدرسة، رغم أن المائدة في بعض الليالي قد تخلو من العشاء.
□ وهل مرّ بك يوم نمتِ فيه من غيرعشاء؟
- نعم، لا بسبب الفقر، بل بسبب الزعل. كنت أحيانًا أغضب من والدتي أو من أمر في البيت، فأنام من دون أن أشاركهم العشاء. غير أن أختَيّ كانتا لا تقبلان أن أظل على تلك الحال.
□ وماذا كانتا تفعلان؟
كانت إحداهما تطرق بابي، تمدّ يدها بالطعام، والفاكهة، وربما شيء من الحلوى، وتتركه دون أن تقول شيئًا. وبعدها بقليل، تأتي الأخرى – من غير أن تعلم بما فعلت أختها – وتُحضر لي طعامًا آخر. وهكذا، بدل أن أمضي ليلتي (زعلانه )... كنت أتناول أكثر مما كنت أفعل في الأيام العادية.
– فكان «الإضراب عن الطعام»... دعابة .
نعم، كنت أخرج من الزعل وقد شبعت!
– يبدو أنك كنتِ محبة للطعام؟
كنت كذلك... نعم. أما الآن، فلا أدري، فقد قلَّت شهيتي، ولم أعد أجد في الطعام نفس اللذة القديمة.
– وهل فقدتِ الإحساس بطعمه؟
لا، ما زلت أُحس بطعمه، لكن لا رغبة لي في الأكل كما في السابق.
– إن عدنا إلى الماضي... هل كانت أيام زمان ألذّ طعمًا من الحاضر؟
دون شك. والدتي، رحمها الله، كانت تطهو أطيب الطعام. طعمه لا يزال حيًّا في الذاكرة.
– ومن يتولى الطبخ في أيامنا هذه؟
أنا من يطبخ. يقولون إن طعامي لذيذ، لكنني لست واثقة! أما ابنتي داليا... فلا علاقة لها بالمطبخ أصلًا!
– حتى الطماطة
ربما بدأت تتعلم الآن، وأرجو أن لا تسمعني فتغضب!
– دعينا نعود قليلاً إلى الزمن الجميل... الأبيض والأسود، هل كان أجمل؟
لكل زمن خصوصيته، لكن الستينات كانت عصرًا ذهبيًّا. الفن في تلك المرحلة كان مختلفًا، والعلاقات كانت نقية، والصداقة حقيقية، والمادة لم تكن هدفًا كما هي اليوم. كنا نُمثّل من أجل الحب، لا من أجل الأجر.
– وهل لم تكوني تفكرين في الأجر؟
كلا، كنتُ أمثّل بدافع الشغف، لا من أجل دينارين أو خمسة. كنا نُقدّر الفن لذاته.
– نغادر الفن إلى ما وراءه... هل ترين الشيطان اليوم أذكى من ذي قبل؟
بالطبع. الشيطان ليس كما نتصوّره في الرسوم، بقرنين وعين واحدة!
لا... هو جميل بطريقة ما. لأنّه لو لم يكن جذّابًا، لما استطاع أن يوسوس ويغوي ويقنع
– جميل؟ ومن قال بذلك؟
أنا أقول. لأنّه إن استطاع أن يتسلل بين اثنين ويصبح ثالثهما، فلا بد أن فيه ما يجذب.
– قلتِ: «ثالثنا»... من هو هذا الثالث؟
الشيطان، كما يُقال في الأمثال القديمة. لكنني لا أؤمن بتلك القاعدة. أؤمن أنني إن جلستُ معك أتحدث حتى مطلع الفجر، فلن يقترب منا.
– ولكن، أليس في الموروث: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما»
ذلك قول قديم... وأنا لا أُسلّم بكل ما ورثناه. ليس كلّ ما جاءنا من الماضي صالحًا للحاضر. بعض الأشياء علينا أن نُعيد التفكير بها بعقل هذا الزمان!