في اللحظة التي سرق فيها بروميثيوس شعلة النار من جبل الأوليمب، بدافع مساعدة الناس الذين يعانون من البرد والظلام، ولمعرفته بما في النار من فائدة في عملية الطهو، وكذلك قدرتها على تشتيت أيّ هجوم لحيوان الغاب أو وحش الجبال كان يضع، دون أن يدري، أداة مبهرة بين يديّ أسلافنا، أعانتهم على عبور زمن الظلمة والإجابة عن الأسئلة المحيّرة.
أما اليوم، فالنار بمعناها الرمزي تمثل العلم والتقنية والقوة، وهذه الثلاثية هي أساسُ كل حضارة. لقد أشارت الأسطورة إلى ما كان عليه بروميثيوس من توقد فكري وتمرد واحتجاج على سلطةٍ استأثرت بالنار وحدها، وحرمت البشر من سُبل امتلاكها، تاركة إياهم في انتظار الصواعق ليقتبسو منها بصيصًا من نور.
هذه السلطة كانت دومًا تقف حاجزًا بين الإنسان وإرادته الحرة في الذهاب باتجاه التعمير والارتقاء. ويبدو أن لا شيء يُمنح بالمجان؛ فبما أن السرقة لا تليق بالإنسان، فإن بروميثيوس عوقب بأن قُيِّد إلى صخرة، ويأتي نسرٌ كل يوم ليلتهم كبده. هذا ما تقوله الأسطورة، وهذا ما رأت فيه الآلهة جزاءً يستحقه من تجرأ على اقتسام النار معهم.
لكن الخلاصة الأعمق أن هذا الصراع بين الإرادة الحرة والسّلطة الحاجبة لها كان وسيظل محورًا جوهريًا في مسيرة الإنسان. وقد كانت النار نموذجًا رمزيًا لهذا التوتر الأزلي بين المعرفة والجهل، بين النور والظلام. ولذلك فهم نيتشه هذا الفعل باعتباره تمجيدًا لقوة العقل، واحتفى به ماركس بوصفه انحيازًا للإنسان العاقل، بينما رأى سارتر أن الأشرار لا يكونون إلا من محدودي التفكير، لأن الشر يتطلب غباءً، لا وعيًا.
بروميثيوس كان يعرف هدفه، وكان يتوقع نتائج فعله. وقد تحقق الأمران: المعاناة، والتغيير. هو إذًا صوت العقل الجمعي، الآتي من أعماق التاريخ حين تتحرك البشرية لإحداث فارقٍ أو تحوّل مصيري.
واليوم، نسأل: هل لا يزال في مقدور العالم أن يلد نموذجًا جديدًا لبروميثيوس؟ أم أن معين الشجاعة قد نضب؟ وهل من أحد يفعل ما يعمّ بالفائدة دون مطامع مادية أو زعامة جوفاء أو تفوّق علمي مسخّر للاستعباد والإبادة؟ كثيرٌ من هذا التفوق المزعوم تقوّضه نتائج التنقيبات الأثرية، ويفضحه ضيق الأفق وبلادة الغاية، متجاوزًا ما ناضلت لأجله البشرية من قيم العدالة والصدق والوفاء.
أين نقف اليوم؟ وأين هم المؤهلون لتسجيل فتوحاتٍ جديدة تحجب عنّا طوفان اللامبالاة، والأنانية، والاستحواذ، والقتل على الهوية، وتلويث البيئة دون رادعٍ إنسانيٍّ ذاتي؟ إن المؤهّلين لهذا الدور لن يكونوا إلا أولئك العارفين بحاجات الناس، الساعين إلى الخلاص الجماعي دون التفافٍ على الجهد أو سرقةٍ للمعنى، المدققين في كل فكرة حتى تصل إلى مرتبة اليقين.
هؤلاء هم العلماء الحقيقيون، الذين لا تحرّكهم دوافع المجد الزائف أو الربح السريع، بل الزهو المعرفي وانتصار العقل. وحدهم يمثلون بروميثيوس العصر. إنهم «القلة النادرة»، ومنجزاتهم العابرة للمكان والزمان وحدها كفيلة بترسيخ أسمائهم في ذاكرة البشرية، لأنهم أناروا ظلماتٍ كانت تسود فضاءات الطب والهندسة والكيمياء والتقنيات.
فالعلم هو نار العصر، وهو ما نسرقه من فم الجهل والتخلف. هو استمرار لما بدأه الإنسان منذ أن «علّم آدمَ الأسماء»، وما استخدمه من الحروف المسمارية والهيروغليفية. كل ذلك إرثٌ بشري يشع من أعماق التاريخ، ويمدّنا بمقدارٍ مذهلٍ من التقدم غير القابل للتوقف.
wوما يعطّله دومًا هم الكسالى والمعتاشون على استلال جهود الآخرين، المتشبثون بالقوة والعنف، المحتشدون كما يحتشد النور ليصنع الجمال. أما هم، فيتوارون في الظلام، كي لا تنكشف سحناتهم القبيحة.
وها نحن اليوم مثل عربةٍ يجرها حصانان؛ أحدهما منطلقٌ في اندفاعه، والآخر متثاقلٌ خامل. وهكذا تسير العربة في دائرة مفرغة، تعجز عن التقدّم نحو الأمام.