الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بروميثيوس‭ ‬العصر

بواسطة azzaman

بروميثيوس‭ ‬العصر

فارس السردار

 

في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬سرق‭ ‬فيها‭ ‬بروميثيوس‭ ‬شعلة‭ ‬النار‭ ‬من‭ ‬جبل‭ ‬الأوليمب،‭ ‬بدافع‭ ‬مساعدة‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬والظلام،‭ ‬ولمعرفته‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬النار‭ ‬من‭ ‬فائدة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الطهو،‭ ‬وكذلك‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬تشتيت‭ ‬أيّ‭ ‬هجوم‭ ‬لحيوان‭ ‬الغاب‭ ‬أو‭ ‬وحش‭ ‬الجبال‭ ‬كان‭ ‬يضع،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري،‭ ‬أداة‭ ‬مبهرة‭ ‬بين‭ ‬يديّ‭ ‬أسلافنا،‭ ‬أعانتهم‭ ‬على‭ ‬عبور‭ ‬زمن‭ ‬الظلمة‭ ‬والإجابة‭ ‬عن‭ ‬الأسئلة‭ ‬المحيّرة‭.‬

أما‭ ‬اليوم،‭ ‬فالنار‭ ‬بمعناها‭ ‬الرمزي‭ ‬تمثل‭ ‬العلم‭ ‬والتقنية‭ ‬والقوة،‭ ‬وهذه‭ ‬الثلاثية‭ ‬هي‭ ‬أساسُ‭ ‬كل‭ ‬حضارة‭. ‬لقد‭ ‬أشارت‭ ‬الأسطورة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬بروميثيوس‭ ‬من‭ ‬توقد‭ ‬فكري‭ ‬وتمرد‭ ‬واحتجاج‭ ‬على‭ ‬سلطةٍ‭ ‬استأثرت‭ ‬بالنار‭ ‬وحدها،‭ ‬وحرمت‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬سُبل‭ ‬امتلاكها،‭ ‬تاركة‭ ‬إياهم‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬الصواعق‭ ‬ليقتبسو‭ ‬منها‭ ‬بصيصًا‭ ‬من‭ ‬نور‭.‬

هذه‭ ‬السلطة‭ ‬كانت‭ ‬دومًا‭ ‬تقف‭ ‬حاجزًا‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬وإرادته‭ ‬الحرة‭ ‬في‭ ‬الذهاب‭ ‬باتجاه‭ ‬التعمير‭ ‬والارتقاء‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يُمنح‭ ‬بالمجان؛‭ ‬فبما‭ ‬أن‭ ‬السرقة‭ ‬لا‭ ‬تليق‭ ‬بالإنسان،‭ ‬فإن‭ ‬بروميثيوس‭ ‬عوقب‭ ‬بأن‭ ‬قُيِّد‭ ‬إلى‭ ‬صخرة،‭ ‬ويأتي‭ ‬نسرٌ‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ليلتهم‭ ‬كبده‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬الأسطورة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬رأت‭ ‬فيه‭ ‬الآلهة‭ ‬جزاءً‭ ‬يستحقه‭ ‬من‭ ‬تجرأ‭ ‬على‭ ‬اقتسام‭ ‬النار‭ ‬معهم‭.‬

لكن‭ ‬الخلاصة‭ ‬الأعمق‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الإرادة‭ ‬الحرة‭ ‬والسّلطة‭ ‬الحاجبة‭ ‬لها‭ ‬كان‭ ‬وسيظل‭ ‬محورًا‭ ‬جوهريًا‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬الإنسان‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬النار‭ ‬نموذجًا‭ ‬رمزيًا‭ ‬لهذا‭ ‬التوتر‭ ‬الأزلي‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬والجهل،‭ ‬بين‭ ‬النور‭ ‬والظلام‭. ‬ولذلك‭ ‬فهم‭ ‬نيتشه‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬باعتباره‭ ‬تمجيدًا‭ ‬لقوة‭ ‬العقل،‭ ‬واحتفى‭ ‬به‭ ‬ماركس‭ ‬بوصفه‭ ‬انحيازًا‭ ‬للإنسان‭ ‬العاقل،‭ ‬بينما‭ ‬رأى‭ ‬سارتر‭ ‬أن‭ ‬الأشرار‭ ‬لا‭ ‬يكونون‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬محدودي‭ ‬التفكير،‭ ‬لأن‭ ‬الشر‭ ‬يتطلب‭ ‬غباءً،‭ ‬لا‭ ‬وعيًا‭.‬

بروميثيوس‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬هدفه،‭ ‬وكان‭ ‬يتوقع‭ ‬نتائج‭ ‬فعله‭. ‬وقد‭ ‬تحقق‭ ‬الأمران‭: ‬المعاناة،‭ ‬والتغيير‭. ‬هو‭ ‬إذًا‭ ‬صوت‭ ‬العقل‭ ‬الجمعي،‭ ‬الآتي‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬التاريخ‭ ‬حين‭ ‬تتحرك‭ ‬البشرية‭ ‬لإحداث‭ ‬فارقٍ‭ ‬أو‭ ‬تحوّل‭ ‬مصيري‭.‬

واليوم،‭ ‬نسأل‭: ‬هل‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬يلد‭ ‬نموذجًا‭ ‬جديدًا‭ ‬لبروميثيوس؟‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬معين‭ ‬الشجاعة‭ ‬قد‭ ‬نضب؟‭ ‬وهل‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬يفعل‭ ‬ما‭ ‬يعمّ‭ ‬بالفائدة‭ ‬دون‭ ‬مطامع‭ ‬مادية‭ ‬أو‭ ‬زعامة‭ ‬جوفاء‭ ‬أو‭ ‬تفوّق‭ ‬علمي‭ ‬مسخّر‭ ‬للاستعباد‭ ‬والإبادة؟‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التفوق‭ ‬المزعوم‭ ‬تقوّضه‭ ‬نتائج‭ ‬التنقيبات‭ ‬الأثرية،‭ ‬ويفضحه‭ ‬ضيق‭ ‬الأفق‭ ‬وبلادة‭ ‬الغاية،‭ ‬متجاوزًا‭ ‬ما‭ ‬ناضلت‭ ‬لأجله‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬العدالة‭ ‬والصدق‭ ‬والوفاء‭.‬

أين‭ ‬نقف‭ ‬اليوم؟‭ ‬وأين‭ ‬هم‭ ‬المؤهلون‭ ‬لتسجيل‭ ‬فتوحاتٍ‭ ‬جديدة‭ ‬تحجب‭ ‬عنّا‭ ‬طوفان‭ ‬اللامبالاة،‭ ‬والأنانية،‭ ‬والاستحواذ،‭ ‬والقتل‭ ‬على‭ ‬الهوية،‭ ‬وتلويث‭ ‬البيئة‭ ‬دون‭ ‬رادعٍ‭ ‬إنسانيٍّ‭ ‬ذاتي؟‭ ‬إن‭ ‬المؤهّلين‭ ‬لهذا‭ ‬الدور‭ ‬لن‭ ‬يكونوا‭ ‬إلا‭ ‬أولئك‭ ‬العارفين‭ ‬بحاجات‭ ‬الناس،‭ ‬الساعين‭ ‬إلى‭ ‬الخلاص‭ ‬الجماعي‭ ‬دون‭ ‬التفافٍ‭ ‬على‭ ‬الجهد‭ ‬أو‭ ‬سرقةٍ‭ ‬للمعنى،‭ ‬المدققين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬فكرة‭ ‬حتى‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬اليقين‭.‬

هؤلاء‭ ‬هم‭ ‬العلماء‭ ‬الحقيقيون،‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تحرّكهم‭ ‬دوافع‭ ‬المجد‭ ‬الزائف‭ ‬أو‭ ‬الربح‭ ‬السريع،‭ ‬بل‭ ‬الزهو‭ ‬المعرفي‭ ‬وانتصار‭ ‬العقل‭. ‬وحدهم‭ ‬يمثلون‭ ‬بروميثيوس‭ ‬العصر‭. ‬إنهم‭ ‬‮«‬القلة‭ ‬النادرة‮»‬،‭ ‬ومنجزاتهم‭ ‬العابرة‭ ‬للمكان‭ ‬والزمان‭ ‬وحدها‭ ‬كفيلة‭ ‬بترسيخ‭ ‬أسمائهم‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬البشرية،‭ ‬لأنهم‭ ‬أناروا‭ ‬ظلماتٍ‭ ‬كانت‭ ‬تسود‭ ‬فضاءات‭ ‬الطب‭ ‬والهندسة‭ ‬والكيمياء‭ ‬والتقنيات‭.‬

فالعلم‭ ‬هو‭ ‬نار‭ ‬العصر،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نسرقه‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬الجهل‭ ‬والتخلف‭. ‬هو‭ ‬استمرار‭ ‬لما‭ ‬بدأه‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬علّم‭ ‬آدمَ‭ ‬الأسماء‮»‬،‭ ‬وما‭ ‬استخدمه‭ ‬من‭ ‬الحروف‭ ‬المسمارية‭ ‬والهيروغليفية‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬إرثٌ‭ ‬بشري‭ ‬يشع‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬التاريخ،‭ ‬ويمدّنا‭ ‬بمقدارٍ‭ ‬مذهلٍ‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬غير‭ ‬القابل‭ ‬للتوقف‭.‬

wوما‭ ‬يعطّله‭ ‬دومًا‭ ‬هم‭ ‬الكسالى‭ ‬والمعتاشون‭ ‬على‭ ‬استلال‭ ‬جهود‭ ‬الآخرين،‭ ‬المتشبثون‭ ‬بالقوة‭ ‬والعنف،‭ ‬المحتشدون‭ ‬كما‭ ‬يحتشد‭ ‬النور‭ ‬ليصنع‭ ‬الجمال‭. ‬أما‭ ‬هم،‭ ‬فيتوارون‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تنكشف‭ ‬سحناتهم‭ ‬القبيحة‭.‬

وها‭ ‬نحن‭ ‬اليوم‭ ‬مثل‭ ‬عربةٍ‭ ‬يجرها‭ ‬حصانان؛‭ ‬أحدهما‭ ‬منطلقٌ‭ ‬في‭ ‬اندفاعه،‭ ‬والآخر‭ ‬متثاقلٌ‭ ‬خامل‭. ‬وهكذا‭ ‬تسير‭ ‬العربة‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬مفرغة،‭ ‬تعجز‭ ‬عن‭ ‬التقدّم‭ ‬نحو‭ ‬الأمام‭. ‬


مشاهدات 104
الكاتب فارس السردار
أضيف 2025/08/09 - 12:27 AM
آخر تحديث 2025/08/14 - 1:48 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 381 الشهر 10101 الكلي 11405187
الوقت الآن
الخميس 2025/8/14 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير