الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
تخصصات بلا مستقبل... أم تعليم بلا بوصلة؟

بواسطة azzaman

تخصصات بلا مستقبل... أم تعليم بلا بوصلة؟

 إسماعيل محمود محمد العيسى

 

ليست كل أزمة في التعليم تُحلّ بإضافة أبنية أو توسيع مقاعد القبول، فالمشكلة الحقيقية قد لا تكون في عدد الجامعات أو طاقتها الاستيعابية؛ بل في السؤال الأعمق:  ماذا ندرّس؟ ولماذا؟

نحن أمام مشهد عالمي يعيد فيه العقل المؤسسي للأمم ترتيب أولوياته، ليس عبر إنشاء جامعات أكثر، بل من خلال مراجعة التخصصات، وإلغاء ما تآكل منها، واستحداث ما يليق بالقرن الحادي والعشرين.

وهنا تبدأ المفارقة: فبينما تمضي دول مثل الصين وألمانيا واليابان إلى رسم خريطة جديدة لتعليمٍ يخدم المستقبل، لا تزال جامعات عربية – ومنها عراقية – تُكرّر تخصصات بلا أثر، وتُخرّج أفواجًا بلا بوصلة.

الصين – صاحبة واحدة من أوسع حركات التحديث الأكاديمي في التاريخ الحديث – ألغت أكثر من 1,670 تخصصًا في السنوات الأخيرة، بعدما ثبت أنها لم تعد تخدم المسار الاقتصادي أو العلمي للبلاد، لم يكن الإلغاء تقليصًا للعلم؛ بل تحريرًا للعقل من التكرار والجمود، وفي المقابل؛ أطلقت الجامعات الصينية موجة تخصصات مستقبلية، منها:

•           هندسة الذكاء الاصطناع:  تخصص يدمج الحاسوب والرياضيات والهندسة لتطوير أنظمة تفكر وتتعلم وتتخذ قرارات؛ بدءًا من التشخيص الطبي؛ وحتى السيارات ذاتية القيادة.

•           علوم الحياد الكربوني:  علم ناشئ يبحث في سُبل التوازن بين الانبعاثات الكربونية وامتصاصها؛ في إطار مواجهة التغير المناخي وبناء اقتصادات نظيفة.

•           هندسة الروبوتات الذكية:  مجال متطور يركز على صناعة روبوتات قادرة على التفاعل مع الإنسان والبيئة عبر الذكاء الاصطناعي؛ تُستخدم في الطب؛ والصناعة؛ والزراعة؛ وحتى الأمن.

•           الحوسبة الكمومية:  حوسبة ترتكز على مبادئ ميكانيكا الكم؛ توفّر قدرة هائلة على معالجة بيانات لا يمكن لحواسيب اليوم مجاراتها؛ وتُستخدم في فك التشفير؛ وتصميم الأدوية؛ والنمذجة الجزيئية.

•           هندسة الجزيئات الذكية:  علم معقد يجمع الكيمياء الحيوية والهندسة لتصميم جزيئات ذات وظائف دقيقة، كإيصال الدواء إلى الخلية مباشرة أو تطوير مواد تستجيب للحرارة أو الضوء.

هذه التخصصات لم تُستحدث لمجرد الحداثة؛ بل جاءت لتنسجم مع رؤية الصين 2035؛ وتخدم مشروعها لتكون دولة ريادية في التكنولوجيا والاقتصاد الأخضر والذكاء الصناعي.

أما ألمانيا، فقد سبقت هذا التوجه حين اعتمدت منذ سنوات طويلة نظام الدراسة المزدوجة : (  Duales Studium ) الذي يُلزم الطالب بالتعلّم داخل الجامعة والتدريب داخل السوق في آنٍ واحد، الجامعات هناك لا تُكافأ على أعداد الخريجين؛ بل على نسبة من يجدون وظائف ذات صلة بتخصصهم خلال الأشهر الأولى بعد التخرج.

وفي اليابان، تسير التجربة بهدوء حاسم؛ من خلال ما يُعرف بـ الهندسة المجتمعية؛ حيث يُلغى أي تخصص لا يُسهم في حل مشكلة مجتمعية؛ أو لا يدعم ابتكارًا صناعياً أو خدمةً عامة.

فماذا عن العراق؟

هنا، لا يزال التعليم العالي يفتقر إلى بوصلة واضحة توجه التخصصات وفق احتياجات السوق والمجتمع والدولة، لدينا أقسام جامعية عمرها عقود لم تُراجع محتوياتها، برامج ماجستير ودكتوراه تُستنسخ دون غاية، وخريجون يُسلَّمون شهادات ثم يُتركون لمصير البطالة أو الهجرة، والأدهى أن بعض التخصصات تُفتح لا لحاجة وطنية؛ بل استجابة لضغط سياسي أو عشائري أو استرضاء مناطقي.

لسنا ضد الفلسفة أو التاريخ أو الأدب أو اللغة العربية والكاتب خريج تلك التخصصات الانسانية – وهي ركيزة الهوية ومرآة الحضارة – لكننا ضد أن تتحوّل هذه التخصصات إلى ممرات إجبارية نحو العطالة والخيبة، فمن حقّ الدولة أن تسائل الجامعات : ما جدوى تخصصاتكم؟ ما معدلات التوظيف؟ ما الأثر الذي تتركونه في السوق، أو على الابتكار، أو في خدمة الناس؟

في زمنٍ بات فيه الذكاء الاصطناعي جزءًا من الأمن القومي؛ وتحليل البيانات شرطًا لاتخاذ القرار؛ والطاقة المتجددة بديلًا استراتيجيًا؛ والغذاء الذكي مشروعًا لتأمين السيادة… من غير المقبول أن نظل ندرّس بلا مراجعة؛ ونُخرّج بلا خطة.

فكم عدد الجامعات العراقية التي أطلقت برامج في هذه التخصصات؟ كم منها راجع برامجه الأكاديمية خلال السنوات الأخيرة؟ من يضمن أن التخصصات المفتوحة حاليًا تخدم رؤية العراق المستقبلية؛ لا مجرد مناهج موروثة؟ وأين الجهة التي تحاسب المؤسسة الأكاديمية إذا أصرّت على تخريج أجيال من دون أفق أو جدوى؟

حين خصّصت الصين 40% من مقاعدها الجامعية للتخصصات الهندسية والتقنية، لم يكن ذلك عبثًا، بل لأن المستقبل هناك يُصاغ في المختبرات لا في مكاتب التوظيف، أما حين نُهمل نحن السؤال عن جدوى ما ندرّسه؛ فإننا نصنع شهادات من ورق؛ لا تعترف بها حتى الحياة.

العالم لا ينتظر المترددين، فهل نملك الشجاعة كي نعيد رسم خريطتنا الأكاديمية؟

أم سنظل ندور في فلك تخصصات بلا مستقبل… وتعليم بلا بوصلة؟


مشاهدات 246
الكاتب  إسماعيل محمود محمد العيسى
أضيف 2025/07/26 - 1:51 AM
آخر تحديث 2025/07/26 - 1:40 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 447 الشهر 17301 الكلي 11170913
الوقت الآن
السبت 2025/7/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير