ثمة عبارة تنسب لأحد كبار مفكري الغرب، فريدريك أنجلز، تحتمل أكثر من معنى، وتنم عن أكثر من قصد، وتذهب في غير ما اتجاه، فهي تحتمل العديد من المعاني والتأويلات.
قال الرجل بكل جرأة “إن العمل هو الذي حول القرد إلى إنسان”، أي أن الإنسان قبل أن يتجه إلى صنع غذائه بنفسه لم يكن سوى قرد، وأن آلات الإنتاج البدائية مثل المسحاة، والرحى اليدوية، والفأس.. صنعت منه إنساناً منتصب القامة، ذا عقل وتفكير وإرادة، وغير ذلك من الأمور.
قد لا يقصد الرجل بمقولته هذه التحول البايولوجي أو (التطور) على وفق نظرية الانتخاب الطبيعي، فتعريف الإنسان الذي بات الأقرب إلى الصواب هو (الحيوان صانع الآلة).
وبعد أن جرى تمييز أقدم هيكل عظمي اكتشف في جنوب أفريقيا بأنه يعود للإنسان، بما تناثر إلى جانبه من آلات حادة منحوتة من الحجارة، وكان يظن قبل ذلك لوقت طويل أنه لقرد راقٍ!، ويغلب على الظن أن المقصود من العبارة هو أن الإنسان يحقق آدميته بالعمل والإنتاج، وليس بالمظهر أو اللغة، أما القرد فهو كائن طفيلي، يأكل ما يجده أمامه، فحسب، وإذا ما فرغ منه، انتقل إلى مكان آخر يجد فيه ضالته، وهكذا.
وإذا كان هذا ما يقصده بالفعل، فإنني أعتقد أنه لم يغادر الحقيقة، فليست هناك قيمة أعلى من قيمة العمل، ولا ثقافة أفضل من ثقافة الإنتاج، وقد تميزت بعض المجتمعات عن غيرها بوفرة ما تنتجه من سلع ومكائن ونظم وأفكار، وليس بأي شيء آخر.
لم تعد مثل هذه الأمور خافية على أحد، بعد أن بلغ الإنسان هذا المستوى الهائل من التقدم، ولم يعد الحديث عن (التطور) يستهوي أحداً، لكن مستويات الإنتاج ماتزال تتفاوت من بلد لآخر، وماتزال هناك هوة تفصل بين الشعوب، والعلة تكمن في نوع العمل، وأسلوبه، ومستواه، أي أن المشكلة لم تعد كما كانت في السابق، بين (الطفيليين) و(المجتهدين)، بل بين نوع العمل ووفرة الإنتاج.
في بلادنا تأخذ الأمور منحى آخر، بل تبدو مقولة القرد والإنسان غريبة نوعاً ما، فلدينا كل ما يحتاجه العمل من مقومات مادية، ولا ينقص الفرد عندنا القدرة على تحمل المشاق، لكن لدينا من منظور آخر، الهوس بتدمير أي طاقة إنتاجية، وإحباط أي مسعى بشري، والرغبة في منع أي خطوة تهدف إلى تطوير الذات وتغيير الواقع.
لقد جرى تدمير ثقافة القطاع الخاص، والمبادرة الفردية، لصالح هيمنة القطاع العام، ولم يعد الناس قادرين على تخطي هذا الحاجز، فاعتناق فكرة الاشتراكية لعقود طويلة، جعل الناس يتخوفون من اقتحام سوق العمل، ويميلون إلى الانغماس في وظائف حكومية، مع أن دور الحكومات على مسار التاريخ هو تقديم الخدمات إلى الناس، لقاء مبالغ يدفعونها إليها. وليس العكس.
وإذا ما بادر أحدهم بإنتاج سلعة ما، فإن أحداً لن يكلف نفسه دعمها، أو التنويه بها، فضلاً عن الإقبال عليها، وهو أمر غريب، ففي حين تصر بعض الشعوب المجاورة على أن تأكل وتلبس وتتلذذ بما تنتجه أيديها ليس إلا، وتقتصر في تنقلها على السيارات المحلية الصنع، رغم تواضعها وفقرها، فإن الناس لدينا يهيمون بالسيارات الفارهة التي تأتيهم من أقاصي الأرض، بأسعار باهظة وغير معقولة، مع أن مثل هذا الأمر لا يعني إلا التخلف وسوء التدبير.
ما نحتاجه هو تبني ثقافة دعم الصناعة الوطنية، مهما كان مستوى الجودة فيها، لأن ذلك يعني وضع حد لاستنزاف العملة، والتبعية للخارج، وبدون ذلك ستصدق مقولة صاحبنا، لا سمح الله، وسنجد أن بيننا وبين شعوب الأرض الأخرى هوة واسعة لا يمكن تجاوزها إلا بالمتاعب والآلام.