الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإنسان‭ ‬والقرد‭ 

بواسطة azzaman

الإنسان‭ ‬والقرد‭ 

محمد زكي ابراهيم

 

ثمة‭ ‬عبارة‭ ‬تنسب‭ ‬لأحد‭ ‬كبار‭ ‬مفكري‭ ‬الغرب،‭ ‬فريدريك‭ ‬أنجلز،‭ ‬تحتمل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬وتنم‭ ‬عن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قصد،‭ ‬وتذهب‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬اتجاه،‭ ‬فهي‭ ‬تحتمل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المعاني‭ ‬والتأويلات‭.  ‬

قال‭ ‬الرجل‭ ‬بكل‭ ‬جرأة‭ “‬إن‭ ‬العمل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬حول‭ ‬القرد‭ ‬إلى‭ ‬إنسان‭”‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬إلى‭ ‬صنع‭ ‬غذائه‭ ‬بنفسه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬قرد،‭ ‬وأن‭ ‬آلات‭ ‬الإنتاج‭ ‬البدائية‭ ‬مثل‭ ‬المسحاة،‭ ‬والرحى‭ ‬اليدوية،‭ ‬والفأس‭.. ‬صنعت‭ ‬منه‭ ‬إنساناً‭ ‬منتصب‭ ‬القامة،‭ ‬ذا‭ ‬عقل‭ ‬وتفكير‭ ‬وإرادة،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الأمور‭.‬

قد‭ ‬لا‭ ‬يقصد‭ ‬الرجل‭ ‬بمقولته‭ ‬هذه‭ ‬التحول‭ ‬البايولوجي‭ ‬أو‭ (‬التطور‭) ‬على‭ ‬وفق‭ ‬نظرية‭ ‬الانتخاب‭ ‬الطبيعي،‭ ‬فتعريف‭ ‬الإنسان‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬الصواب‭ ‬هو‭ (‬الحيوان‭ ‬صانع‭ ‬الآلة‭).‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬جرى‭ ‬تمييز‭ ‬أقدم‭ ‬هيكل‭ ‬عظمي‭ ‬اكتشف‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا‭ ‬بأنه‭ ‬يعود‭ ‬للإنسان،‭ ‬بما‭ ‬تناثر‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬من‭ ‬آلات‭ ‬حادة‭ ‬منحوتة‭ ‬من‭ ‬الحجارة،‭ ‬وكان‭ ‬يظن‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬لوقت‭ ‬طويل‭ ‬أنه‭ ‬لقرد‭ ‬راقٍ‭!‬،‭ ‬ويغلب‭ ‬على‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬العبارة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يحقق‭ ‬آدميته‭ ‬بالعمل‭ ‬والإنتاج،‭ ‬وليس‭ ‬بالمظهر‭ ‬أو‭ ‬اللغة،‭ ‬أما‭ ‬القرد‭ ‬فهو‭ ‬كائن‭ ‬طفيلي،‭ ‬يأكل‭ ‬ما‭ ‬يجده‭ ‬أمامه،‭ ‬فحسب،‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬فرغ‭ ‬منه،‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬ضالته،‭ ‬وهكذا‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يقصده‭ ‬بالفعل،‭ ‬فإنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يغادر‭ ‬الحقيقة،‭ ‬فليست‭ ‬هناك‭ ‬قيمة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬العمل،‭ ‬ولا‭ ‬ثقافة‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬الإنتاج،‭ ‬وقد‭ ‬تميزت‭ ‬بعض‭ ‬المجتمعات‭ ‬عن‭ ‬غيرها‭ ‬بوفرة‭ ‬ما‭ ‬تنتجه‭ ‬من‭ ‬سلع‭ ‬ومكائن‭ ‬ونظم‭ ‬وأفكار،‭ ‬وليس‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭.‬

لم‭ ‬تعد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬خافية‭ ‬على‭ ‬أحد،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الإنسان‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬الهائل‭ ‬من‭ ‬التقدم،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ (‬التطور‭) ‬يستهوي‭ ‬أحداً،‭ ‬لكن‭ ‬مستويات‭ ‬الإنتاج‭ ‬ماتزال‭ ‬تتفاوت‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬لآخر،‭ ‬وماتزال‭ ‬هناك‭ ‬هوة‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الشعوب،‭ ‬والعلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬العمل،‭ ‬وأسلوبه،‭ ‬ومستواه،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬المشكلة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬السابق،‭ ‬بين‭ (‬الطفيليين‭) ‬و‭(‬المجتهدين‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬بين‭ ‬نوع‭ ‬العمل‭ ‬ووفرة‭ ‬الإنتاج‭.‬

في‭ ‬بلادنا‭ ‬تأخذ‭ ‬الأمور‭ ‬منحى‭ ‬آخر،‭ ‬بل‭ ‬تبدو‭ ‬مقولة‭ ‬القرد‭ ‬والإنسان‭ ‬غريبة‭ ‬نوعاً‭ ‬ما،‭ ‬فلدينا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬مقومات‭ ‬مادية،‭ ‬ولا‭ ‬ينقص‭ ‬الفرد‭ ‬عندنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬المشاق،‭ ‬لكن‭ ‬لدينا‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬آخر،‭ ‬الهوس‭ ‬بتدمير‭ ‬أي‭ ‬طاقة‭ ‬إنتاجية،‭ ‬وإحباط‭ ‬أي‭ ‬مسعى‭ ‬بشري،‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬أي‭ ‬خطوة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬الذات‭ ‬وتغيير‭ ‬الواقع‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬جرى‭ ‬تدمير‭ ‬ثقافة‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص،‭ ‬والمبادرة‭ ‬الفردية،‭ ‬لصالح‭ ‬هيمنة‭ ‬القطاع‭ ‬العام،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الناس‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬تخطي‭ ‬هذا‭ ‬الحاجز،‭ ‬فاعتناق‭ ‬فكرة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬لعقود‭ ‬طويلة،‭ ‬جعل‭ ‬الناس‭ ‬يتخوفون‭ ‬من‭ ‬اقتحام‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬ويميلون‭ ‬إلى‭ ‬الانغماس‭ ‬في‭ ‬وظائف‭ ‬حكومية،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬الحكومات‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬التاريخ‭ ‬هو‭ ‬تقديم‭ ‬الخدمات‭ ‬إلى‭ ‬الناس،‭ ‬لقاء‭ ‬مبالغ‭ ‬يدفعونها‭ ‬إليها‭. ‬وليس‭ ‬العكس‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬بادر‭ ‬أحدهم‭ ‬بإنتاج‭ ‬سلعة‭ ‬ما،‭ ‬فإن‭ ‬أحداً‭ ‬لن‭ ‬يكلف‭ ‬نفسه‭ ‬دعمها،‭ ‬أو‭ ‬التنويه‭ ‬بها،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الإقبال‭ ‬عليها،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬غريب،‭ ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬تصر‭ ‬بعض‭ ‬الشعوب‭ ‬المجاورة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تأكل‭ ‬وتلبس‭ ‬وتتلذذ‭ ‬بما‭ ‬تنتجه‭ ‬أيديها‭ ‬ليس‭ ‬إلا،‭ ‬وتقتصر‭ ‬في‭ ‬تنقلها‭ ‬على‭ ‬السيارات‭ ‬المحلية‭ ‬الصنع،‭ ‬رغم‭ ‬تواضعها‭ ‬وفقرها،‭ ‬فإن‭ ‬الناس‭ ‬لدينا‭ ‬يهيمون‭ ‬بالسيارات‭ ‬الفارهة‭ ‬التي‭ ‬تأتيهم‭ ‬من‭ ‬أقاصي‭ ‬الأرض،‭ ‬بأسعار‭ ‬باهظة‭ ‬وغير‭ ‬معقولة،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬إلا‭ ‬التخلف‭ ‬وسوء‭ ‬التدبير‭.  ‬

‭ ‬ما‭ ‬نحتاجه‭ ‬هو‭ ‬تبني‭ ‬ثقافة‭ ‬دعم‭ ‬الصناعة‭ ‬الوطنية،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬مستوى‭ ‬الجودة‭ ‬فيها،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لاستنزاف‭ ‬العملة،‭ ‬والتبعية‭ ‬للخارج،‭ ‬وبدون‭ ‬ذلك‭ ‬ستصدق‭ ‬مقولة‭ ‬صاحبنا،‭ ‬لا‭ ‬سمح‭ ‬الله،‭ ‬وسنجد‭ ‬أن‭ ‬بيننا‭ ‬وبين‭ ‬شعوب‭ ‬الأرض‭ ‬الأخرى‭ ‬هوة‭ ‬واسعة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها‭ ‬إلا‭ ‬بالمتاعب‭ ‬والآلام‭.‬

‭ ‬


مشاهدات 36
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2025/04/19 - 12:06 AM
آخر تحديث 2025/04/19 - 11:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 688 الشهر 19345 الكلي 10899992
الوقت الآن
السبت 2025/4/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير