مع صدور العدد 8000 من جريدة الزمان؛ استرجعتُ مسيرتي مع الجريدة والتي لولاها، كنتُ اعتزلتُ الكتابة بكل صنوفها بعد وصولي إلى أستراليا. أجل فتحتُ بوابة ذاكرتي التي مازالت متوهجة مثل مشعل تنوير في ميدان حرب؛ حين كان طريقي إلى جريدة الزمان حافلاً بالكمائن هناك في البلاد؛ وأنا أعيش بين مخالب جمهورية الرعب والتهديد والوعيد في أواخر التسعينيات من القرن الماضي. أول كمين كان في المسرح الوطني حيث انتخابات نقابة الصحفيين الذين توافدوا من جميع محافظات البلاد لانتخاب نقيب الصحفيين وصحفي القرن العشرين والذي لم يكن بالطبع سوى عدي صدام حسين؛ وحين انتهيت من وضع ورقة اقتراعي وإذا بالقاص محمد مزيد يأخذني جانباً ليخبرني بحذرٍ أنَّ قصائد قصار لي قرأها في جريدة الزمان عندما كان في الأردن؛ لم أكنْ قد سمعت بجريدة الزمان من قبل فسألته عنها، فهمس بأذني إنها جريدة أصدرها سعد البزاز؛ حالما سمعتهُ جفَّ ريقي وتصاعد وجيب قلبي من الخوف؛ ذلك أنَّ ذكر اسم البزاز علناً والذي أصبح المعارض الأول لنظام الطاغية في ذلك الوقت؛ يعني صعودك إلى حبل المشنقة بلا محاكمة؛ فكيف وقد نشرت جريدته نصوصي الشعرية؛ شعرت في داخل القاعة كأن رجال الأمن سيعتقلونني في أية لحظة، فتركتُ المكان مرعوباً والأسئلة تغزو رأسي، تٌرى ما هو خطاب القصائد التي نشرتها جريدة الزمان ومن ذلك الذي أوصلها إلى هناك وهل قرأها زبانية الطاغية، لم أجد جواباً لأسئلتي، و بحمد الله مرَّ ذلك الكمين بسلام؛ لكنَّ الكمين الثاني جعلني في حيرة من أمري ومأزق خطير، حين وضع موظف استعلامات اتحاد الأدباء أبو قتيبة وهو يرتدي بدلة الزيتوني رسالتين بيدي كانت الأولى مرسلة لي والأخرى للقاص وارد بدر السالم؛ كانت الرسالتان قادمتان بالبريد من هولندا وقد أرسلهما القاص عدنان حسين أحمد، فتحت رسالتي وقرأتها، كانت سطورها الأولى مليئة بالعواطف الجياشة والشوق لكنَّ بعد ذلك يطلب في سطورها مني الكتابة إلى جريدة الزمان مقابل مكافأة مجزية تساعدني في ظروف الحصار القاسي؛ وأنَّ طلب الكتابة جاء بناءً على رسالة وصلته من هارون محمد المشرف على الجريدة؛ يا إلهي من هو هارون محمد ولماذا يطلب مني بالذات الكتابة لجريدة الزمان، المفاجأة أنَّ الرسالة التي وصلت إلى وارد بدر السالم حين قرأها كانت مشابهة بفحواها لرسالتي؛ ساد صمتٌ بيننا والهلع يهيمن على نظراتنا لبعض، اقترحت على وارد عرض الأمر على الشاعر حميد سعيد وكان بمنصب الوكيل الأقدم في وزارة الثقافة؛ استاءَ أبو بادية حين قرأ الرسالتين في مكتبهِ وتساءل باستغراب: من أين جاء البزاز بهذه الأموال حتى يفتح هذه الجريدة؛ ونصحنا بتجاهل الرسالتين وحذَّرنا من الكتابة في جريدة الزمان. بعد يومين في نادي الأدباء سمعتُ ضابط أمن الاتحاد والمُكنّى أبو ساره يتحدث مع أدباء الزيتوني قائلاً: سنصطاد سعد البزاز ونشرب دمه قطرة، قطرة، فاضطربتُ لأترك النادي مرتبكاً؛ حيرة ما بعدها حيرة؛ كنتُ أشبه بحمل وديع أحاطتْ به الذئاب من كل حَدَبٍ وصوب؛ ذات صباح قابلني أحد رعيَّة عدي المقربين عند استعلامات وزارة الثقافة ليسألني باستخفاف:
- لماذا لا تشمّع الخيط مثل الذين سبقوك؟
- من تعني؟
فأجابَ بضغينةٍ:
- سعد البزاز وعباس الجنابي وقائمة الخونة تطول.
وعندما حضرت مهرجان أبو تمام في الموصل، رأيت الصديق فاتح هناك وقد حضر حاملاً معهُ بذلة أنيقة كهدية لكزار حنتوش؛ سألته عن أحواله؛ فابتسم بحذر وقال لا شيء حتى الآن؛ بعد بأسابيع علمتُ أنه تمكَّن الخلاص من الجحيم؛ لأنجح بعدهُ بالفرار من البلاد في شباط من عام 2001؛ حالما وصلت إلى الأردن أرسلتُ فاكساً إلى جريدة الزمان في لندن أعلمهم بوصولي؛ بعد ساعات هاتفني الصديق فاتح عبد السلام وكان فرحاً بنجاتي من جحيم البلاد؛ وطمأنني أنَّ الجريدة ستتكفل بتغطية تكاليف إقامتي وطعامي مقابل الكتابة بشكل متواصل، وهكذا واضبت على إرسال مقالي الأسبوعي مع تحقيقات ولقاءات مع أدباء معروفين؛ لكني لاحظتُ أنَّ الكثير من الأدباء العراقيين كانوا يكتبون في الجريدة ليس كمعارضين للنظام الدموي؛ إنَّما ينشرون نصوصهم على أمل قبولهم كلاجئين بوصف جريدة الزمان كانت تقف في مقدمة الصحف المعارضة للنظام القمعي في البلاد. كثيرون وصلوا المنافي كلاجئين بفضل جريدة الزمان، لكني لست منهم؛ كان يكفي الاضطهاد العرقي لأني من بيت النوَّاب بقبولي لاجئاً بفترة قياسية، وحين وصلت إلى أستراليا لم أنقطع بالكتابة للجريدة ومن دون مقابل طيلة سنوات غربتي، وقبل سنوات وصلتني دعوة للكتابة في جريدة تصدر في لندن مقابل مكافأة يسيل لها اللعاب، لكني حين استوضحتُ عن تلك الجريدة لدى صديق نبيل؛ أخبرني أنَّ الجريدة يقف خلفها ابن أحد أركان النظام المقبور؛ وترك لي حرية الكتابة فيها؛ لكني صرفت النظر عن تلك الدعوة برغم إغراء الجريدة السخي لأنجو من كمينها الرث بنصيحة من ذلك الصديق الوفي. وأقول بصراحة هناك من الذين كتبوا سطور التهنئة بمناسبة صدور العدد 8000 من الجريدة؛ كانوا يحذرونني شخصياً من الكتابة فيها عندما كنتُ في البلاد وأنَّ مصيري سيكون في الهاوية لو أقدمت على ذلك؛ فسبحان مغيِّر الأحوال؛ لقد واكبت جريدة الزمان على مدى أكثر من عشرين عاماً مساهماً في تحقيقاتها الثقافية والإنسانية وكاتب مقال؛ أنا الولد الصعلوك كما نعتني أحدهم بهذه التسمية للاستهانة بشخصي؛ أقول لهُ ولبعض الذين كتبوا كلمات الإطراء عن الجريدة بهذه المناسبة، أتمنى أن يكون عشقكم لجريدة الزمان من ضمائركم وليس لأجل مصالحكم وجيوبكم؛ والزمان بيننا.