ثمة كتاب شهير اسمه “المحاسن والمساوئ” وضعه رجل غير معروف جيداً، اسمه إبراهيم بن محمد البيهقي، عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجريين، عدد فيه محاسن الأشياء وأضدادها، وأتى على مناقب الرجال ومثالبهم، وعوَّل في ذلك على الروايات والأخبار والقصص والأشعار التي ألم بها، أو حفظها، أو استقاها من رواة عصره، وهي مهمة شاقة ومضنية، دون شك.
الكتاب يحوي الكثير من الطرائف التي تستهوي القارئ وتبعد عنه الملل، من ذلك أنه أفرد أقل من صفحة لمساوئ الكذب، في حين أوقف على محاسنه أربع صفحات! وأورد نتفاً من أخبار كان فيها الكذب منجاة من الأذى، وسبباً من أسباب الغلبة، ووسيلة من وسائل الرفاهية! لا أظن إلا أن الكاتب قد استملح مثل هذه الروايات، وأراد أن يبرهن على أن خصلة الكذب كانت على الدوام تقليداً بشرياً لم تخلُ منه المجتمعات، ولم تستغنِ عنه، بغض النظر عما يمثله من سلوك غير أخلاقي يقابله الجميع بالازدراء.
حين أنظر إلى هذه الفكرة، أجد أن البيهقي قد اختار أن يكون واقعياً أكثر من اللزوم، وحاكى ما يجري على الأرض حتى لو كان فيه خروج على المألوف، فالتعاملات اليومية التي يمارسها الناس في مختلف المجتمعات قائمة في الأصل على هذا النوع من السلوك، وكثيراً ما تُعمد إلى إعطاء صورة وردية أو تزيين موقف، أو التبشير بغدٍ غير معلوم، وهذه جميعها تخالف الحقيقة وتجافي المنطق.
ولعل من أكثر الأبواب استغراقاً في الوهم، السياسة، فهي فن تجميل الواقع وتزويق الباطل، ولو عمد رجال الحكم إلى مصارحة الناس بما ينتظرهم من مستقبل مجهول، لكرههم الناس وخلعوهم من السلطة، قد يحالفهم النجاح تارة ويجانبهم تارة أخرى، فهناك ظروف موضوعية تتدخل لصالح هذا الطرف أو ذاك، لكنها غير مضمونة أو قاطعة.
الحقيقة أن النظريات الحديثة قد دعمت هذه الفكرة، وآمنت أن الحياة ليست بذات قيم أو معانٍ يجب الدفاع عنها أو الوقوف بجانبها. الأجدر بالإنسان ألا يكون صاحب مبدأ أو عقيدة إلا بحسب ما تمليه عليه مصلحته الشخصية، وقد عُرف هذا النمط من التفكير بالعدمية، التي راجت في النصف الأول من القرن الماضي، أي أن المحاسن والمساوئ التي جاء بهما البيهقي ربما كانتا صيغتين متقدمتين لما نعيشه نحن الآن بعد ألف عام أو يزيد.
هذه النظريات جعلت الكثير من دول العالم لا تتورع عن إخفاء الحقيقة أو اجتراح الآثام، فليس هناك ما يردع الشركات والأفراد والحكومات عن مثل هذا السلوك سوى الأديان، التي أكدت على وجوب اتباع الحق والتزام جادة الصواب، ولم تقبل بالتهاون في هذا المجال.
وظهرت مقولات العلمانية، التي لا تؤمن بما وراء الطبيعة، بفصل الدين عن الدولة، وبذا تخلصت من أي وازع أخلاقي يحرم عليها الدجل والكذب واللف والدوران.
في حياتنا الكثير من هذه الأنماط التي تجعلنا ندرك أن المنفعة الشخصية أو مصلحة الدولة مقدمة على الحقيقة، ذلك أن كشف المستور في كثير من الأحيان يضر بأصحابه ولا يعود عليهم إلا بالخسارة، لو حرصت السلطة – أي سلطة – على أن تصرح بجميع أسرارها على الملأ، لما استطاعت البقاء إلا أياماً قليلة.
ربما أراد البيهقي البرهنة على أن العبرة في النتائج، وليس في المقدمات، وأن الغاية النبيلة التي تقود إلى سلامة الجماعة تبرر الوسيلة غير المشروعة، وهذا ما لا يعترض عليه الناس في هذا العصر أو أي عصر آخر، حتى لو أظهروا خلافه وآمنوا بسواه.