الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
المحاسن‭ ‬والمساوئ

بواسطة azzaman

المحاسن‭ ‬والمساوئ

محمد زكي ابراهيم

‭ ‬

ثمة‭ ‬كتاب‭ ‬شهير‭ ‬اسمه‭ “‬المحاسن‭ ‬والمساوئ‭” ‬وضعه‭ ‬رجل‭ ‬غير‭ ‬معروف‭ ‬جيداً،‭ ‬اسمه‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬محمد‭ ‬البيهقي،‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الهجريين،‭ ‬عدد‭ ‬فيه‭ ‬محاسن‭ ‬الأشياء‭ ‬وأضدادها،‭ ‬وأتى‭ ‬على‭ ‬مناقب‭ ‬الرجال‭ ‬ومثالبهم،‭ ‬وعوَّل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الروايات‭ ‬والأخبار‭ ‬والقصص‭ ‬والأشعار‭ ‬التي‭ ‬ألم‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬حفظها،‭ ‬أو‭ ‬استقاها‭ ‬من‭ ‬رواة‭ ‬عصره،‭ ‬وهي‭ ‬مهمة‭ ‬شاقة‭ ‬ومضنية،‭ ‬دون‭ ‬شك‭. ‬

الكتاب‭ ‬يحوي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الطرائف‭ ‬التي‭ ‬تستهوي‭ ‬القارئ‭ ‬وتبعد‭ ‬عنه‭ ‬الملل،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬أفرد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬صفحة‭ ‬لمساوئ‭ ‬الكذب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أوقف‭ ‬على‭ ‬محاسنه‭ ‬أربع‭ ‬صفحات‭! ‬وأورد‭ ‬نتفاً‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬الكذب‭ ‬منجاة‭ ‬من‭ ‬الأذى،‭ ‬وسبباً‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬الغلبة،‭ ‬ووسيلة‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الرفاهية‭!  ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬قد‭ ‬استملح‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الروايات،‭ ‬وأراد‭ ‬أن‭ ‬يبرهن‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬خصلة‭ ‬الكذب‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬تقليداً‭ ‬بشرياً‭ ‬لم‭ ‬تخلُ‭ ‬منه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬ولم‭ ‬تستغنِ‭ ‬عنه،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬يمثله‭ ‬من‭ ‬سلوك‭ ‬غير‭ ‬أخلاقي‭ ‬يقابله‭ ‬الجميع‭ ‬بالازدراء‭. ‬

حين‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬البيهقي‭ ‬قد‭ ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬واقعياً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اللزوم،‭ ‬وحاكى‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬خروج‭ ‬على‭ ‬المألوف،‭ ‬فالتعاملات‭ ‬اليومية‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المجتمعات‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السلوك،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬تُعمد‭ ‬إلى‭ ‬إعطاء‭ ‬صورة‭ ‬وردية‭ ‬أو‭ ‬تزيين‭ ‬موقف،‭ ‬أو‭ ‬التبشير‭ ‬بغدٍ‭ ‬غير‭ ‬معلوم،‭ ‬وهذه‭ ‬جميعها‭ ‬تخالف‭ ‬الحقيقة‭ ‬وتجافي‭ ‬المنطق‭. ‬

ولعل‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأبواب‭ ‬استغراقاً‭ ‬في‭ ‬الوهم،‭ ‬السياسة،‭ ‬فهي‭ ‬فن‭ ‬تجميل‭ ‬الواقع‭ ‬وتزويق‭ ‬الباطل،‭ ‬ولو‭ ‬عمد‭ ‬رجال‭ ‬الحكم‭ ‬إلى‭ ‬مصارحة‭ ‬الناس‭ ‬بما‭ ‬ينتظرهم‭ ‬من‭ ‬مستقبل‭ ‬مجهول،‭ ‬لكرههم‭ ‬الناس‭ ‬وخلعوهم‭ ‬من‭ ‬السلطة،‭ ‬قد‭ ‬يحالفهم‭ ‬النجاح‭ ‬تارة‭ ‬ويجانبهم‭ ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬فهناك‭ ‬ظروف‭ ‬موضوعية‭ ‬تتدخل‭ ‬لصالح‭ ‬هذا‭ ‬الطرف‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬لكنها‭ ‬غير‭ ‬مضمونة‭ ‬أو‭ ‬قاطعة‭. ‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬النظريات‭ ‬الحديثة‭ ‬قد‭ ‬دعمت‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬وآمنت‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬ليست‭ ‬بذات‭ ‬قيم‭ ‬أو‭ ‬معانٍ‭ ‬يجب‭ ‬الدفاع‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬الوقوف‭ ‬بجانبها‭. ‬الأجدر‭ ‬بالإنسان‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬صاحب‭ ‬مبدأ‭ ‬أو‭ ‬عقيدة‭ ‬إلا‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬تمليه‭ ‬عليه‭ ‬مصلحته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وقد‭ ‬عُرف‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬بالعدمية،‭ ‬التي‭ ‬راجت‭ ‬في‭ ‬النصف‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬المحاسن‭ ‬والمساوئ‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بهما‭ ‬البيهقي‭ ‬ربما‭ ‬كانتا‭ ‬صيغتين‭ ‬متقدمتين‭ ‬لما‭ ‬نعيشه‭ ‬نحن‭ ‬الآن‭ ‬بعد‭ ‬ألف‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭. ‬

هذه‭ ‬النظريات‭ ‬جعلت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬تتورع‭ ‬عن‭ ‬إخفاء‭ ‬الحقيقة‭ ‬أو‭ ‬اجتراح‭ ‬الآثام،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يردع‭ ‬الشركات‭ ‬والأفراد‭ ‬والحكومات‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السلوك‭ ‬سوى‭ ‬الأديان،‭ ‬التي‭ ‬أكدت‭ ‬على‭ ‬وجوب‭ ‬اتباع‭ ‬الحق‭ ‬والتزام‭ ‬جادة‭ ‬الصواب،‭ ‬ولم‭ ‬تقبل‭ ‬بالتهاون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭.‬

وظهرت‭ ‬مقولات‭ ‬العلمانية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة،‭ ‬بفصل‭ ‬الدين‭ ‬عن‭ ‬الدولة،‭ ‬وبذا‭ ‬تخلصت‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وازع‭ ‬أخلاقي‭ ‬يحرم‭ ‬عليها‭ ‬الدجل‭ ‬والكذب‭ ‬واللف‭ ‬والدوران‭.   ‬

في‭ ‬حياتنا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأنماط‭ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬المنفعة‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬مصلحة‭ ‬الدولة‭ ‬مقدمة‭ ‬على‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬كشف‭ ‬المستور‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬يضر‭ ‬بأصحابه‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬عليهم‭ ‬إلا‭ ‬بالخسارة،‭ ‬لو‭ ‬حرصت‭ ‬السلطة‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬سلطة‭ ‬–‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تصرح‭ ‬بجميع‭ ‬أسرارها‭ ‬على‭ ‬الملأ،‭ ‬لما‭ ‬استطاعت‭ ‬البقاء‭ ‬إلا‭ ‬أياماً‭ ‬قليلة‭. ‬

‭ ‬ربما‭ ‬أراد‭ ‬البيهقي‭ ‬البرهنة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬العبرة‭ ‬في‭ ‬النتائج،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬المقدمات،‭ ‬وأن‭ ‬الغاية‭ ‬النبيلة‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬سلامة‭ ‬الجماعة‭ ‬تبرر‭ ‬الوسيلة‭ ‬غير‭ ‬المشروعة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعترض‭ ‬عليه‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬عصر‭ ‬آخر،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أظهروا‭ ‬خلافه‭ ‬وآمنوا‭ ‬بسواه‭.‬


مشاهدات 151
الكاتب محمد زكي ابراهيم
أضيف 2024/09/19 - 12:30 AM
آخر تحديث 2024/10/19 - 9:46 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 388 الشهر 7922 الكلي 10037645
الوقت الآن
السبت 2024/10/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير