الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ماركس ورفعة الجادرجي

بواسطة azzaman

ماركس ورفعة الجادرجي

 

نوزاد حسن

 

     بكل تاكيد لن اقدم في هذا المقال مقارنة بين ماركس ورفعة الجادرجي,اذ لا يمكن التفكير بمثل هذه المقارنة.ذلك لان الاول فيلسوف كبير ترك اثرا كبيرا على الفكر المعاصر,والثاني مهندس عراقي مولع بالعمارة,وهو احد رموزها الكبار.لكني في الواقع استطيع ان اجد منطقة محددة تجمع الرجلين,ومن الممكن الحديث عنهما انطلاقا من حدود تلك المنطقة التي اسميها بمنطقة عدم الايمان,او منطقة الالحاد.اظن ان باستطاعتي الحديث عن هذا الامر,وما يشجعني في الحقيقة على هذا الحديث ان هذين الرجلين هما من كبار الملاحدة,ولا ابالغ لو قلت ان رفعة الجادرجي هو اكثر تمسكا وعنادا في الحاده من ماركس.وسابين بعد قليل فرضيتي التي تقول:ان الجادرجي هذا المهندس المعماري كان ملحدا لا يمكن مجاراته.ولا اخطيء ابدا لو قلت بانه اكبر ملاحدتنا العراقيين بل هو شيخ الملاحدة في العالم.ولا يقترب من الحاده الا ريتشارد دوكينز,هذا المصر على موقفه اللايماني العنيد ايضا.يثيرني موقف الملحدين بشكل عام.افكر فيهم كمغامرين يراهنون على كل شيء ليكسبوا خيارا واحدا فقط.الا تتفقون معي ان الخيار الواحد في قضية مهمة كالايمان هو خيار صعب وثقيل في الوقت نفسه.وكلنا نعرف رهان باسكال الذي وضع احتمالين امامه في العالم الاخر.فاذا آمن الانسان ووجد ان هناك الها ينتظره فقد فاز وان لم يكن هناك عالم اخروي  فلن يخسر شيئا.ومع ان رهان باسكال هذا تفوح منه رائحة الرياضيات لكنه رهان منطقي جدا ومقبول.ما يقلل من جدية هذا الرهان ويجعله بلا طعم هو يقين الملحد الداخلي بان عقله منسجم مع النتيجة التي وصل اليها.لذا كل الاحتمالات مرفوضة امامه.ومن الغريب ربما ان اقول ان رفعة الجادرجي هو افضل من ينطبق عليه هذا الشرط وهو:ملحد يكتفي بهذا العالم,ووصيته هي ان يحرق.وفعلا احرق جسده.والاهم من كل هذا شعوره المليء بيقين لا يتزعزع بكذبة الايمان وعدم وجود العالم الاخر.وحين اقول يقين فانا اعني شيئا اعمق كثيرا من راي في قضية.انا اشير هنا الى حالة عقلية ثابتة قوية التاثير تتصلب لتصبح موقفا لا يمكن مخالفته ابدا.

1

لا يملك رفعة الجادرجي نظرية فلسفية كماركس في اثبات الحاده.وفي احد البرامج الحواريه معه-حاوره ريكاردو كرم- والحوار موجود على قناة اليوتيوب يؤكد رفعة انه درس في هارفارد عشر سنوات الفلسفة والانثروبولوجيا,ثم انتهى الى عدم الايمان والالحاد.هذا موقف معرفي عميق,لنشدد على كلمة عميق.فنحن هنا امام موقف داخلي انتشر في خلايا دماغ رفعة الجادرجي جعله يتحول الى الالحاد.اننا امام سيل من المعلومات التي حصل عليها من دراسته في هارفارد ثم تحولت هذه المعرفة الى موقف خطير له لون الاحتمال الواحد كما قلت.

هذا يعني انني اقف امام ملحد شرس يعرف عن اي شيء يتكلم.وهو يختلف اعني رفعة عن ملحدي الاحزاب الماركسية في الاقطار العربية من ناحية ان الحاد هؤلاء المتحزبين هو الحاد معارضة سياسية,وانزعاج من التفكير الضيق الذي يرونه سائدا فيجدون حلا مناسبا في طريق ماركس الذي يسير فيه الملايين من الاتباع.جاء ماركس بفلسفة مادية جدلية,اذ تدرس هذه الفلسفة»أعم قوانين الكون،وهـي القـوانين التـي تشـترك فيهـا جميع جوانب الواقع من طبيعة فيزيائيـة وفكـر مـارة بالطبيعـة الحيـة وبـالمجتمع.غيـر أن مـاركس وانجلـز، وهمـا مؤسسا المادية الجدلية، لم يبدعا الجدلية من خيالهما . بـل إن تقـدم العلـم هـو الـذي أتاح لهما اكتشاف أعم القوانين التي تشـترك فيهـا جميـع العلـوم وصـياغتها وهـي القوانين التي تعرضها الفلسفة(1)

لم يدرس ماركس في هارفارد,ولم يكن ابنا لاب سياسي مثل رفعة,لكني لا استبعد ان يكون للسياسي الشهير كامل الجادرجي تاثير في طريقة تفكير ابنه رفعة ذلك لان كامل الجادرجي كان هو ايضا ملحدا من طراز نادر في مجتمع كمجتمعنا العقائدي الذي ينقل للابناء الايمان تلقائيا.لذلك يمكنني القول ان كامل الجادرجي وابنه كانا علامتين فارقتين تعكسان معنى التمرد على السياق المعرفي الديني وانكاره,وهذا التمرد هو حالة غير معروفة عندنا بل وتكاد تكون مستهجنة.وفي كتاب «صورة اب» الذي كتبه رفعة عن والده نستطيع ان نلمس الاحترام والتقديس الكبيرين اللذين كان يحملهما رفعة اتجاه ابيه.

واظن ان رفعة لم يتاثر بوالده من ناحية موقفه العقائدي الالحادي فحسب,وانما ورث كذلك هواية التصوير الفوتغرافي من ابيه.ولعل صورة الرصافي التي اشتهرت وهو يلبس العقال العربي التقطت للرصافي في بيت الجادرجي,وكان الذي التقط الصورة له هو والد رفعت,ومن ثم نشرت الصورة في جريدة الاهالي,وانتشرت على نطاق واسع.وفيما بعد فقد جمع رفعة الجادرجي ارشيفا ضخما من الصور يقدر بخمسين الف صورة تصور مختلف مناحي الحياة في العراق من شماله الى جنوبه,وقد اهدى هذا الارشف لاحدى المؤسسات اللبنانية المعنية بالتصوير الفوتغرافي للمحافظة عليه.

 

 

                                  2

 هناك تشابه كبير بين الحاد ماركس وبين الحاد رفعة الجادرجي.المنطق الفلسفي يختلف بالتاكيد.فماركس يؤمن بنظرية مادية جدلية تفسر العالم وتحاول تغييره,ورفعة ينطلق في الحاده من منطق خاص يتعلق بمفهوم الصيرورة ودور الصدفة في هذه الصيرورة.ولو ان ماركس قرأ كتاب رفعة الجادرجي «صورة اب» فانه لن يوافق على ما كان يقوله كامل الجادرجي عن دور الصدفة في هذا العالم.ولن يوافق ماركس ايضا على ما قاله رفعة الجادرجي في كتابه «ظلمة بين جدارين»اذ في هذا الكتاب الذي يمكن عده واحد من اجمل نصوص ادب السجون تحدث رفعة الجادرجي عن محنته بعد استدعائه وسجنه عشرين شهرا لسبب غير قانوني.وقد وصف وضعه ومعاناته في سجن المخابرات,وما كان يحدث فيه من اساليب غير انسانية.كما ان الكتاب يتضمن اشارات واضحة لعملية تحول منظمة كان الهدف منها وضع يد الحزب الواحد على كل مفاصل الدولة,وانهاء الحياة الديمقراطية فيها انهاء تاما.

في خضم ازمته الشخصية تساءل رفعة عن سبب وجوده في ذلك المكان.فهذا المعماري الذي يملك مكتبا استشاريا في بغداد,والذي يعيش باسلوب ارستقراطي يجد نفسه في ظلمة امتدت عشرين شهرا.هنا وجد رفعة الجادرجي نفسه امام حالة خاصة جدا.هو يرفض ان يسميها بالقدر الذي اصابه.كان في الحقيقة يفكر بطريقة خاصة به.دعوني اسميها ب»عناد الملحد».هكذا كان رفعة الجادرجي يفكر.كان يراقب نفسه جيدا,وكان يحاول ان يجعل من محنته وتجربته نموذجا يتطابق مع ايمانه بعدم وجود اله.بكلمة ادق:لم يكن يريد ان يهتز يقينه ولو للحظة واحدة بفكرة ابيه وفكرته هو ايضا عن دور الصدفة,وتدخلها في حياته.كانت رسالته امام من يعرفهم ان يبقى ملحدا نقيا دون اي مؤثرات تفسد عليه الحاده.لذا انا اتساءل بحيرة باحث يعاني من مشاكل على المستوى الشخصي ايضا,اتساءل عن طاقة هذا المثقف المعماري الذي صنع من نفسه نموذجا خاصا ليبرهن على ان تفكيره منسجم جدا مع تجربته.وان فهمه لا يتناقض مع واقعه الذي يعيشه.تماما كما كان يفكر ماركس حين اصر على انه اكتشف قوانين التطور وسير التاريخ الانساني.وان العالم هنا هو الحدود التي نعرفها ولا يمكننا ان نذهب ابعد منها.

                                 3

في السجن طرح رفعة قضية يقينه المادي بالعالم.لقد واجه محنته كسجين,وحاول ان يتحدث عن مشكلته الشخصية.واراد ان يبرر للصدفة ما فعلته به.لنقرأ ما قاله عن سبب وجوده في ذلك المكان.يقول»كنت اعيد النظر في وجودي,واقول ما هذه الصدفة السيئة التي حجبت عني الاستمرار في ذلك الوجود؟(يقصد حياته المترفة الناعمة قبل ان يسجن).ثم اقول لماذا انا بالذات.؟كنت اعلم ان الصدفة لا تختار ولا تحدث بعقل او تخطيط.وانما صفتها العفوية في العينة,في التوقيت والاداء.لذا فانها تحدث من دون مقدمات واضحة.»(2)

قد لا تكون هذه الفقرة واضحة لكنها تعبر عن وجهة نظر غريبة,وتجعلنا نفكر في ان الالحاد لكي يكون عنيدا ومتماسكا ليس بالضرورة ان بأتي من معطف كارل ماركس.اؤكد انني امام ملحد عراقي ينافس مؤسس الماركسية في انكاره للاله,بل يتفوق عليه.كما ان ملحدنا المعماري يراقب اسلوبه جيدا لكي لا يخون نفسه فيستخدم كلمة تعطينا اشارة ما الى وجود عالم اخر.واتذكر رد فعل رفعة الجادرجي حين تلفظ محاوره ريكاردو كرم وهو يساله عن القدر لذي تدخل قي حياته,فاجابه رفعت بانه لا يعرف ما يقصده بالقدر.ثم نفى وجود الروح لانه لا يؤمن بان للانسان روحا,ودراسته الطويلة اكدت له هذه الحقيقة,لكنه في النهاية يحترم الاديان بكل اشكالها.

مهما يكن من امر فقد اخفى رفعة الجادرجي توتره الروحي ببراعة كبيرة,وربما كان صادقا في موقفه من عدم الايمان الى حد ان عقله كان صافيا وهادئا,وهو يفرغ ويجرد هذا العالم من اي شيء غير مادي.لقد نظف رفعت عقله جيداوولم يكن بحاجة الى اسماء بلا معنى –هو يراها هكذا- كالروح او الله او العناية الالهية او الرؤيا التي تكشف ما هو مستقبلي.

تكمن قوة الحاد رفعت الجادرحي في كونه لم يتعرض لكآبة وجودية حادة.تصرف بهدوء من ان افكاره حسمت كل شيء لمصلحته.العالم موجود,وهذا يكفي,وعلينا ان نقر به,وان نرفض اي امتداد روحي له.وفي سجنه تحدث عن موقفين شعر فيهما بانه كئيب لكن هذين الموقفين الكئيبين بعيدان جدا من معنى الكآبة الوجودية التي اعني بها الاحساس بالقلق لان العقل لم يعد يمنحنا احساسا كاملا بالراحة.وان تفسيره للاشياء اصبح بلا فائدة.ولو ان رفعت الجادرجي لم يتعرض لمحنة السجن فلم يكن ليصادف هذين الموقفين اللذين سببا له كآبته التي تحدث عنها

                               4

هذا ما قصدته حين اشرت الى قوة الحاد هذا المعماري العنيد.فلا لغته,ولا كلامه,ولا عقله تخلى او ضعف ثانية واحدة,على عكس ماركس الذي احس في احدى المرات بانه كئيب جدا,وغير قادر على فعل شيء.وقد اثبت هذا في رسالة لصديقه انجلز,وكان تاريخ الرسالة هو الحادي من اذار عام 1882(3).ولا استبعد ان يسخر رفعة الجادري من ماركس لو انه قرأ تلك الرسالة,وسيكون رده على ماركس شبيها برده على محاوره ريكاردو كرم.اذ لا يمكن ان يصدق احد امكانية ان يتعرض الفيلسوف ماركس لكآبة من هذا النوع.وقد يكون من الطبيعي ان يتعرض اي شخص لقلق او حالة من الانزعاج تبعده عن عالمه لكن هذه الحالة لن تدوم لانها قلق عارض سببه ظرف خارجي,ولا يتعلق بالعقل,وطبيعة عمله.لذا فان قلق الجادرجي الابن هو قلق وكآبة مادية الشكل ترتبط مباشرة بتعرض بعض الاشخاص الى التعذيب وامام عيني ملحدنا الكبير.لذا فكآبته عارضة وليست وجودية مثل كآبة ماركس التي لها في معجم علم النفس تعريف واضح.وهذا ما دفعني للقول بان الجادرجي الابن اكثر شراسة من ماركس لانه حافظ على الحاده جيدا,وكان صادقا مع نفسه الى حد بعيد.

1-جورج بوليتزر,وجي بيس,وموريس كافين,اصول الفلسفة الماركسية,ترجمة شعبان بركات,منشورات المكتبة المكتبة العصرية,بيروت,ص13.

2-رفعة الجادرجي,بلقيس شرارة,ظلمة بين جدارين,دار الساقي,طبعة اولى,2003,ص145.

3-ماركس,انجلز,الماركسية والجزائر,دار الطليعة,طبعة اولى 1978,بيروت,ص 85.

 

 

 

 


مشاهدات 229
الكاتب نوزاد حسن
أضيف 2024/09/14 - 1:47 AM
آخر تحديث 2024/10/19 - 7:11 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 336 الشهر 7870 الكلي 10037593
الوقت الآن
السبت 2024/10/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير