الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عيد الميلاد من منظور إلهي وإنساني

بواسطة azzaman

عيد الميلاد من منظور إلهي وإنساني

لويس إقليمس

 

مع اقتراب احتفال العالم المسيحي ومعه العالم أجمع بعيد ميلاد السيد المسيح «المخلّص» في مغارة بيت لحم، يسرني أن أقدّم خالص التهاني لكافة المحتفلين بهذه المناسبة العالمية من مسيحيين ومحبيهم والمتعاطفين معهم. عسى وليدُ المغارة بقدرته الإلهية والإنسانية معًا ينقل العالم أجمع وخاصةً بلدَنا الغارق في متاهات الفساد المتعددة والسلطة غير الرشيدة بسبب النقص المتواصل في الخدمات والسكن والبنية التحتية وتراجع التعليم والتربية إلى ميناء السلام والتفاهم والحوار الجادّ لبناء الوطن وأركانه ومؤسساته  في أجواء من العدالة والمساواة واحترام الآخر وفي حرية التعبير عن الرأي والعبادة والمعتقد. وبدءًا أنشدُ مع  الشاعر أحمد شوقي في واحدةٍ من أجمل قصائده في وصف ولادة هذا الرب المجيد:         

ولد الرفق يوم مولد عيسى

والمروءات والهدى والحياءُ

وازدهى الكون بالوليد وضاءت

بسناه من الثرى الأرجاءُ

الجزء الأول:

عيد الميلاد ببساطة هو يوم ولادة سيدنا يسوع المسيح من مريم العذراء في مغارة بيت لحم في فلسطين. وهو عيدٌ مفصليّ في تاريخ البشرية حيثُ يحتفل به أكثر من مليارين وثلاثمائة مليون مسيحي في العالم من جميع الكنائس والطوائف، أي يقرب من 29% من سكان العالم بحسب إحصائيات عالمية منشورة في 10 حزيران 2025. كما يتعاطف مع هذا العيد شعوبٌ وأقوامٌ كثيرة في مختلف أرجاء المسكونة ومنهم في العراق وبلدان عربية وإسلامية عديدة، بالرغم من تحذيرات ترد من هنا وهناك ومن أفرادٍ يحرّمون الاحتفال بهذه المناسبة المسيحية  رغم كونها عالمية من منظور إنساني وإلهي معًا. فولادة السيد المسيح وحياتُه االقصيرة على الأرض حيث عاش 33 سنة من رسالته البشرية وسط الناس، هي عنوان مشروع خلاصيّ بحسب العقيدة المسيحية لمصالحة الأرض مع السماء، أي البشر المخلوق من قبل الله خالق السماوات والأرض مع هذا الإله العظيم الذي لا تحدُّه حدود ولا يمكن أن يُقاس في محبته الإلهية الأبوية الرحيمة لبني البشر الذين يمثلون صورتَه الجميلة على الأرض.

فتاة عذراء

يبدأ المشروع الخلاص «الإلهي» باختيار فتاة عذراء تخدم في الهيكل بحسب الشريعة اليهودية اسمُها «مريم» بنت الرجل البار «يوياقيم» ووالدتُها «حنّة» النبية كما يشيرُ إليها الكتاب المقدّس. مريم، بعد أن خطبها يوسف البار بوحيٍ من الروح القدس وبإشارة من الملاك جبرائيل الذي بشرها بحملها بطفلٍ عظيم يُدعى ابن الله بالرغم من عدم زواجها أو معرفتها برجل، قبلت بهذا التكليف الإلهي وقالت للملاك «ها أنا أمةٌ للرب، فليكنْ لي بحسب قولك» (لوقا 1: 38). وفيما يخصّ يوسف البار خطيب مريم، فقد طمأنَهُ الملاك حين كشف له السرّ الكبير في هذا الحدث. يقول الإنجيلي متى (1: 19- 21): «وكان يوسف رجلاً صالحًا فلم يُرِدْ أن يكشفَ أمرَها، فعزمَ على تخليتها سرًّا. وبينما هو يفكر في هذا الأمر، ظهرَ له ملاكُ الربّ في الحلم وقالَ له: يا يوسف ابنَ داود، لا تخف أن تأخذَ مريم امرأةً لك، فهي حبلى من الروح القدس وستلدُ ابنًا تُسمّيه يسوع، لأنّه يخلّصُ شعبَه من خطاياهم». حين قبلت مريم بهذا التكليف الإلهي لتكون أمًا لإلهٍ وإنسان معًا، كانت هي الأخرى قد أبدت حيرتَها من كلام الملاك، لكونها لم تكن تعرف رجلاً في حياتها. لكن الملاك طمأنها هي الأخرى وقال لها: «كلّ شيء ممكن عند الله». فقد كان كلام الملاك جبرائيل باتًّا وواضحًا حين سلّم عليها وهي تقيم الخدمة اليومية في الهيكل بحسب ما نقرأ في إنجيل القديس لوقا البشير:( 1: 28-35): «السلام عليك يا ممتلئة نعمة، الربّ معك. فاضطربت مريم لهذا الكلام وتساءلت ما عسى أن يكون هذا السلام. فقال لها الملاك: لا تخافي، يا مريم، فإنّك قد نلتِ حظوةً عند الله. وها أنت تحبلين وتلدين ابنًا، وتسمّينه يسوع. إنّه سيكون عظيمًا، وابنَ العليّ يُدعى. ويعطيه الربّ الإله عرشَ داود أبيه. ويملك على بيت يعقوب أبد الدهر، ولا يكون لملكه انقضاء. فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها:  الروح القدس يحلّ عليكِ وقدرة العليّ تظلّلكِ. لذلك فالمولود منك قدّوسٌ وابنَ العليّ يُدعى».  

دلالة ابدية

في هذا الحديث الصريح من قبل الملاك نتيقّن من أن المسيح هو ابن الله القدوس (ابن العليّ والقدوس)، وهما صفتان لهذه الدلالة الأبدية الخالدة والتاريخية التي لا تقبل الجدال أو الطعن. فهو الكلمة الذي كان منذ البدء. «في البدء كان الكلمة، وكان الله الكلمة» كما يشير يوحنا الإنجيلي (يوحنا: 1:14). فالمسيح ليس نبيًا كسائر الأنبياء بل هو ابن الله المساوي للآب في الجوهر بحسب عقيدتنا المسيحية ولاهوتنا العقائدي الذي لا يقبل الطعن أو التفسير المغاير لحقيقته الإلهية والبشرية معًا.

مريم العذراء  وخطيبُها يوسف في السردية الإنجيلية 

يُعتبر متى ولوقا الإنجيليان أكثر مَن تحدثا عن حدث ميلاد المسيح وأمّه العذراء وعلاقتهما بيوسف البار الذي قبل بتلبية طلب الملاك منه كي يتحمل أبوّة عجيبة ويتكفل بتدبير حياة أسرته الصغيرة لسنوات غير معروفة عندما كان يعمل في مهنة التجارة البسيطة التي كانت تدرّ عليهم ما تحتاجُه حياتُهم اليومية المادية الضرورية منذ أيام البشارة في الناصرة ويهوذا، مرورًا بليلة الميلاد العصيبة في مغارة بيت لحم حيث وُلد يسوع ولم يكن لهم مأوى حينما كانوا في طريقهم للاكتتاب في مدينة داود. فلجأوا إلى هذه المغارة المتروكة عندما لم يجدوا مكانًا في نزل على الطريق، ما اضطرهم لاستخدام هذه المغارة العائدة لرعاة كانوا يسهرون على ماشيتهم وغنمهم في الكورة المجاورة.

ذاكرة جميلة

 وهكذا وُلد يسوع بين حيوانات ليتم ما قيل عن اسرائيل ناكرة الجميل في وقتها «الثور والحمار عرفا ربهما وأمّا إسرائيل فلم تعرفْهُ» بحسب إشعيا النبي الذي عاش قبل سبعة قرون من ميلاد المسيح وتنبأ عن مجيئه هذا بهذه الظروف البائسة والفقيرة، كما تحدث عن اسرائيل خاصته التي لم تقبله بحسب ما تنبأت كتبُهم جميعًا على لسان جميع الأنبياء. ففي هذه الاية نجد مدلولات لاهوتية وروحية بارزة وعميقة تشير إلى قدرة المسيح كونه ابن الله الذي رفضه اليهود ولم يعترف به رؤساء كهنتهم بل طالبوا الوالي بيلاطس بصلبه.

 لكونه يهدّدُ أمتَهم ويُقلق مضاجع هياكلهم التي تحوّلت من أماكن عبادة إلى متاجر وسوق تبادل بضائع تحت أعين ونظر رؤساء الكهنة الذين انساقوا وراء المتاجرة بدينهم، تمامًا كما يحصل اليوم في مجتمعاتنا من تغطية مصالح ومنافع البعض باسم الدين. كما لا ننسى هروب العائلة المقدسة إلى مصر خوفًا من بطش هيرودس الملك الذي كان أمرَ بقتل جميع المواليد الصغار في المقاطعة اليهودية كي يقضي على الوليد الذي زاره ملوكُ الشرق أي المجوس للسجود له بحسب النجمة التي دلّتهم إليه في ليلة ظلماء. ولكنهم لم يعودوا إلى الملك هيرودس لإعلامه بموقع ولادة المسيح خوفًا عليه من بطشه.

في القراءة السردية لحادثة الميلاد نشهد لعقيدة التجسد وأهميته بكونه جوهر الحقيقة الميلادية أي أنّ الإله الابن وهو الاقنوم الثاني من الثالوث الأقدس تسربل جسدًا أي تجسّد بصفة إنسان ووُلد وعاش على هذه الأرض كأيّ بشر. ويؤكد هذه الحقيقة الانجيلي يوحنا (1: 14)  بقوله:»ألكلمة صارَجسدًا وحلَّ بيننا فرأينا مجدَه، مجدًا يفيضُ بالنعمة والحقّ نالهُ من الآب كإبنٍ له أوحدَ». فيما يُؤكدُ هذا التجسّد البشري ما تنبأَ به الأنبياء عن مجيء المسيح وولادته في مدينة بيت لحم من عذراء تنحدرُ من نسل داود تأكيدًا على أنّ نسلَ المسيح ملوكيّ وجاءَ ليخلِّصَ العالم ضمن مشروع إلهيّ متكامل الأركان يبدأ من ولادته وحياته بين البشر لثلاثين سنة، ثمّ رسالته التي دامت ثلاث سنوات حتى موته صلبًا على أيدي اليهود في عهد الوالي الروماني بيلاطس البنطي. نقرأ عن الإنجيلي لوقا البشير )2: 10-11) كلامًا في هذا الصدد تفوّهَ به الملاك وهو يبشّر الرعاة في البرّية القريبة من بيت لحم:»لا تخافوا! ها أنا أبشركم بخبرٍ عظيم يفرحُ له جميعُ الشعب: وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّصٌ هو المسيح الربّ». كما نقرأ في إنجيل متى (1: -22-23) معلومةً مهمةً أخرى تتحدث عن بشارة العذراء من قبل الملاك وولادتها : «حدثَ هذا كلُّه ليتمّ ما قيل بلسان النبي، ستحبلُ العذراءُ فتلدُ ابنًا يُدعى عمانوئيل أي أللهُ معنا». ونلاحظ أن جميع هذه النصوص وغيرها كثيرٌ تنقلُ لنا خلاصة تاريخية تشيرُ إلى الحدث الكبير بولادة طفل من نسل ملوكي في مغارة بسيطة وقد اتخذ صفة بشرٍ ليرتقي بالإنسانية عبر مشروعٍ خلاصيّ ربّانيّ ليمنح البشرية الأمل والرجاء والسلام. ولعلَّ  أجملَ ما نقله لوقا الإنجيلي (2: 14) ليلة ميلاد

المسيح العجائبية وتختصر رجاءَ الكون برسالة عظيمة تتمثل في التسبحة الملائكية التي أصبحت شعارًا للسلام والطمأنينة «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ».

 

يتبع- ج 2


مشاهدات 51
الكاتب لويس إقليمس
أضيف 2025/12/19 - 10:35 PM
آخر تحديث 2025/12/20 - 1:34 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 71 الشهر 14414 الكلي 12998319
الوقت الآن
السبت 2025/12/20 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير