طالبة سعودية تحصد الذهب بإبتكار ذكي يعيد رسم إستدامة المياه
الأحساء - زهير بن جمعة الغزال
في زمنٍ تتسارع فيه خطى الابتكار وتتنامى فيه الحاجة إلى حلول تحمي الموارد وتدعم الاستدامة، يبرز اسم شابة سعودية استطاعت أن تحجز لنفسها مساحة مضيئة بين نجوم الإبداع العالمي، إنها الطالبة جنا بنت حسين معشي، من قسم الهندسة الكيميائية بكلية الهندسة وعلوم الحاسب في جامعة جازان، التي نجحت في أن تتوَّج بالميدالية الذهبية والجائزة الخاصة الكبرى من HIUF خلال مشاركتها في المعرض السعودي العالمي للاختراعات والابتكارات SGiE 2025، عن ابتكارٍ نوعي يحمل رؤية واضحة ورسالة بيئية عميقة، ونظام ذكي لمعالجة المياه الرمادية وإعادة استخدامها في الري بتقنيات إنترنت الأشياء.هذا الإنجاز لم يكن مجرد تتويج أكاديمي، بل محطة فارقة في مسيرة طالبة تؤمن بأن الهندسة ليست معادلات جامدة، بل نافذة نحو حلول تغيّر حياة الإنسان وتخدم البيئة وتواكب رؤية المملكة الطموحة للمستقبل. فالمشروع الذي ابتكرته جنى لا يقدّم مجرد تقنية مبتكرة، بل يقدم نموذجًا عمليًا يستجيب لتحديات إدارة المياه، خصوصًا في المناطق الزراعية التي تعتمد على كميات كبيرة من المياه، ويجعل من المياه الرمادية موردًا قابلًا لإعادة التدوير بطريقة ذكية ومُجدية.
في هذا الحوار المطوّل، نحاور جنى عن رحلتها، وتفاصيل ابتكارها، والتحديات التي واجهتها، وكيف استطاعت طالبة في مقتبل الطريق أن تشق طريقها بثبات وسط مشاريع منافسة من مختلف جامعات المملكة والعالم. حوار يحمل بين سطوره قصة شغف وإصرار، ويكشف جوانب إنسانية وعلمية من شخصية مُلهمة تمثّل نموذجًا مشرفًا للمرأة السعودية الشابة.
جهد وعمل
□ بداية، كيف تصفين لحظة إعلان فوزك بالجائزة الكبرى والميدالية الذهبية؟
- كانت لحظة تختصر كل الجهد والعمل والتجارب التي استمرت شهورًا طويلة. شعرت بأنني أحمل مسؤولية كبيرة ومسؤولية أجمل في نفس الوقت عندما سمعت اسمي بين الفائزين، تذكرت كل خطوة من خطوات المشروع، والساعات التي قضيتها في معامل الجامعة، والدعم الذي تلقيته من أسرتي وأساتذتي، كان إحساسًا ممزوجًا بالفخر والامتنان والثقة بأن الطريق الذي اخترته صحيح.
□ لنتحدث عن ابتكارك، ما الفكرة الأساسية التي ينطلق منها «النظام الذكي لمعالجة المياه الرمادية؟
- الفكرة جاءت من سؤال بسيط، لماذا نهدر كل هذه الكمية من المياه الرمادية يوميًا؟ المياه الناتجة من المغاسل والحمامات والغسيل يمكن إعادة استخدامها بعد المعالجة لعمليات الري بدلًا من إهدارها، ومن هنا بدأت أبحث عن طريقة تجعل هذه العملية تلقائية وفعّالة وذكية.
النظام الذي ابتكرته يعتمد على تقنيات إنترنت الأشياء للتحكم في مراحل المعالجة والضخ دون تدخل مباشر، مع قراءة فورية لجودة المياه قبل وبعد المعالجة لضمان سلامتها للاستخدام الزراعي.
□ لماذا المياه الرمادية بالذات؟ ما الذي شدّك لهذا الموضوع؟
-لأن إدارة المياه أصبحت قضية عالمية، والمملكة تقود توجهًا استراتيجيًا كبيرًا نحو الاستدامة المائية. المياه الرمادية تُهدر بنسبة كبيرة جدًا رغم أنها قابلة للمعالجة بتكلفة أقل بكثير من المياه السوداء، كما أن المناطق الزراعية تستهلك كميات كبيرة من المياه العذبة، في حين يمكن تخفيف هذا الاستهلاك عبر إعادة استخدام المياه الرمادية.
أردت مشروعًا يعكس تخصصي في الهندسة الكيميائية ويخدم رؤية بلادي في حماية الموارد.
□ ما أبرز التقنيات التي اعتمدتِ عليها في مشروعك؟
- اعتمدت على مجموعة من التقنيات المترابطة، أهمها، حساسات متطورة لقياس جودة المياه من حيث نسبة الأملاح والشوائب والعكارة ودرجة الحموضة، ونظام تحكم إلكتروني يعمل عبر متحكمات دقيقة متصلة بالإنترنت، وبرنامج يعتمد على إنترنت الأشياء لضبط تدفق المياه وإرسال التنبيهات للمستخدمين عبر تطبيق إلكتروني، ومجموعة من وحدات الترشيح الميكانيكي والكيميائي ذات القدرة العالية على إزالة الملوثات، ومنظومة تحليل بيانات تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتوقّع أوقات الحاجة للري وتحديد الكميات المناسبة، وهذه العناصر جعلت النظام ليس مجرد جهاز معالجة، بل منصة ذكية لإدارة المياه واستثمارها بشكل مستدام.
□ هل واجهتِ صعوبات خلال تنفيذ المشروع؟
- نعم، وبصراحة، كانت التحديات كثيرة، من أهمها صعوبة الحصول على قياسات دقيقة من الحساسات في المراحل الأولى، واستغرق الأمر العديد من التجارب لتثبيت النتائج، كما واجهت تحديات في تصميم النموذج الأولي بشكل متين وقابل للعرض والاستخدام. إضافة إلى ذلك، كان عليّ تحقيق توازن بين التكلفة والكفاءة حتى يكون المشروع قابلًا للتطبيق العملي، لكن كل تحدٍ جعلني أتعلم أكثر وأعيد النظر في التصميم حتى أصل للنتيجة التي كنت أحلم بها.
فكرة نظرية
□ ماذا قالت لك لجنة التحكيم بعد الاطلاع على مشروعك؟
- ما أسعدني أن اللجنة أشادت بأن المشروع ليس مجرد فكرة نظرية، بل مشروع جاهز للتطبيق وقابل للتطوير على نطاق واسع أعجبهم الدمج بين الهندسة الكيميائية وإنترنت الأشياء، ورأوا فيه حلًا عمليًا يخدم الزراعة ويقلل الاستهلاك الفردي للمياه. كما أكدوا أن المشروع يتماشى بشكل مباشر مع أهداف الاستدامة في رؤية 2030، وهذا ما رفع تقييمه بينهم.
□ كيف كان دعم جامعة جازان لك خلال مراحل المشروع؟
- جامعة جازان كانت شريكًا رئيسيًا في هذا الإنجاز، وفرت لي المختبرات، وساعدني أساتذتي في فهم الجوانب الكيميائية الدقيقة للعملية، كما تلقيت دعمًا معنويًا كبيرًا من عمادة الكلية، وكانوا يتابعون تقدّم المشروع خطوة بخطوة، هذا الفوز أعتبره ثمرة منظومة علمية احتضنتني وقادتني نحو منصة التتويج.
□ هل يمكنكِ الحديث عن دور أساتذتك بشكل خاص؟
نعم، أساتذتي كانوا اليد التي تدفعني إلى الأمام دائمًا. قدموا لي نصائح مهمة حول طرق المعالجة، وراجعوا معي البيانات، وساعدوني في فهم التقنيات التحليلية. كانوا يسألوني باستمرار، كيف يمكن تحسين النموذج؟ هذا السؤال جعلني أعود للتصميم مرارًا وأعمل على تطويره حتى أصبح بالشكل الذي عرضته في المعرض.
كيف بدأت علاقتك بالهندسة؟ وهل كنت دائمًا ميّالة لهذا المجال؟
منذ طفولتي وأنا أحب جمع الأدوات الصغيرة وفكّها لإعادة تركيبها. كنت مفتونة بكل ما يتعلق بالتجارب العلمية. عندما كنت في المرحلة الثانوية، أدركت أن الهندسة هي المجال الذي يجمع بين حب الاكتشاف والعمل التطبيقي وبعد دخولي قسم الهندسة الكيميائية، شعرت أنني وجدت مكاني الحقيقي، والهندسة بالنسبة لي ليست تخصصًا دراسيًا فقط، بل طريقة تفكير، وطريقة لفهم العالم والتعامل مع مشاكله بمنطق وحلول مبتكرة.
ما الرسالة التي ترغبين في توجيهها للفتيات السعوديات؟
أقول لكل فتاة سعودية، الحلم الكبير ليس مستحيلًا، المجال الهندسي والعلمي مفتوح أمامكن اليوم أكثر من أي وقت مضى. لدينا دعم كبير من الدولة وتمكين غير مسبوق للمرأة في كل المجالات، إذا كنتِ تحبين هذا المجال، فلا تسمحي لأي شيء أن يوقفك، ابدئي من فكرة صغيرة، واعملي عليها بجد، وستصلين بإذن الله.
كيف ترين مستقبل الشباب السعودي في مجال الابتكار؟
المستقبل واعد جدًا لدينا بنية تحتية قوية في الجامعات، ولدينا مسابقات محلية وعالمية تشجع على الابتكار، الشباب السعودي طموح، ويملك القدرة والإبداع. ومن خلال رؤية المملكة 2030، نرى دعمًا حقيقيًا للبحث العلمي والتقنية، وأؤمن بأن السنوات القادمة ستشهد ظهور ابتكارات سعودية لا تقل أهمية عن الابتكارات العالمية.
هل تنوين تحويل مشروعك إلى منتج تجاري في المستقبل؟
نعم، هذا أحد أهدافي المستقبلية المشروع قابل للتطوير ليصبح منتجًا منزليًا أو زراعيًا أو حتى صناعيًا، وأطمح للتعاون مع جهات متخصصة لتحويله إلى منتج متكامل يتم تسويقه على مستوى المملكة، وربما خارجها أيضًا. فأنا أؤمن أن هذا الحل يمكن أن يسهم بشكل كبير في تخفيف الضغط على موارد المياه وتحقيق استدامة حقيقية.
هل كانت هناك لحظة معيّنة شعرتِ فيها بأن كل شيء كان يستحق العناء؟
تلك اللحظة كانت عندما رأيت النموذج يعمل بكفاءة لأول مرة، بعد سلسلة طويلة من الإخفاقات والتعديلات شعرت حينها أن كل التعب لم يذهب سدى. ثم جاءت لحظة الصعود على منصة التتويج، وكانت لحظة لا تُنسى، ورأيت الفخر في أعين أهلي وأساتذتي، وشعرت أنني لا أمثل نفسي فقط، بل أُمثل بلدي وجيلًا كاملًا من الطالبات الطموحات.
ما خطوتك التالية بعد هذا الإنجاز؟
أخطط لإكمال دراساتي العليا في مجال تقنيات معالجة المياه وتقنيات الاستدامة. كما أعمل على كتابة بحث علمي موسع حول تطوير وحدات الترشيح المستخدمة في النظام، وأطمح للمشاركة في مسابقات عالمية أكبر لأثبت أن المبتكر السعودي قادر على المنافسة في أي ساحة.
ما الرسالة الأخيرة التي توجّهينها لكل شاب وشابة يرغبون بدخول عالم الابتكار؟
أقول لهم الابتكار ليس فكرة عبقرية تأتي من السماء، بل رحلة من التجربة والخطأ والعمل المتواصل لا تخافوا من الفشل، فهو خطوة نحو النجاح، احملوا شغفكم، وابدأوا من حيث أنتم، واطلبوا الدعم من جامعاتكم ومنصات الابتكار، نحن اليوم في وطن يفتح أبوابه لكل موهبة، ويقدم كل الإمكانات لتحقيق إنجازات ترفع اسم المملكة عاليًا، ابتكروا، فالمستقبل يُكتب بأيديكم.
بهذا تنهي جنى حسين معشي حديثها، لتترك أثراً واضحًا بأن الإبداع لا يعرف العمر، وأن الطموح حين يقترن بالعمل يتحول إلى إنجازات ملموسة قادرة على إلهام الأجيال. إن ابتكارها ليس مجرد مشروع جامعي، بل رسالة تؤكد أن الشباب السعودي يملك القدرة على خلق حلول نوعية تدعم الاستدامة وتنسجم مع رؤية 2030.
قصة جنى ليست مجرد خبر، بل نموذج لفتاة سعودية صنعت لنفسها مكانًا بين المبدعين، وقدمت للعالم ابتكارًا يثبت أن المستقبل يبدأ بفكرة، وينمو بالعمل، ويزدهر بالشغف.