الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مفهوم الخلود الرقمي في عصر الذكاء الاصطناعي


مفهوم الخلود الرقمي في عصر الذكاء الاصطناعي

ضياء الجميلي

 

خلال لقائي مع الدكتور عبد المجيد السامرائي في برنامج "أطراف الحديث" على قناة الشرقية، طُرِح عليّ سؤال مهم للغاية: "ما هو الخلود الرقمي؟" وبسبب ضيق الوقت في البرنامج، لم أتمكن من تقديم شرح وافٍ لهذا المفهوم. لذلك قررتُ كتابة هذه المقالة لتوضيح فكرة الخلود الرقمي بشكل أعمق وأكثر شمولاً. كما أود أن أُشير إلى أنني استعنت بتقنيات الذكاء الاصطناعي في إعداد وصياغة هذا المقال.

لطالما شكّلت رغبة الإنسان في الاستمرار بعد الموت هاجسًا ملازمًا لتاريخه، وحاضرًا بقوة في مختلف الثقافات والتقاليد الدينية. فمن تصورات البابليين والمصريين القدماء عن الحياة بعد الموت، إلى أسطورة ينبوع الشباب التي سعى إليها المستكشفون الإسبان، ظلّ حلم الخلود محركًا للخيال الإنساني ودافعًا للبحث عبر قرون طويلة.

وبينما قدّمت السبل التقليدية—مثل المعتقدات الدينية، والتجميد الحيوي، والتدخلات الوراثية—تصورات متباينة عن إمكانية الحياة الأبدية، جاءت الطفرة التكنولوجية المتسارعة لتعيد صياغة مفهوم الخلود ذاته، وتنقله من إطار روحي أو بيولوجي إلى فضاء رقمي غير مسبوق.

تتناول هذه المقالة مفهوم الخلود الرقمي المدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي (او ما يسمى بالصور الرمزية الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي) بوصفه مقاربة حديثة لرغبة الإنسان القديمة في البقاء، مستعرضة الأسس العلمية لفكرة تحميل الوعي، ومناقشة الإشكاليات الأخلاقية والفلسفية المرتبطة بالحياة الرقمية بعد الموت، إضافة إلى دور تقنيات وتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة في حفظ الإرث الرقمي للفرد وضمان استمراريته عبر الزمن.

تشير أحدث التقديرات في الأوساط التقنية والصناعات الرقمية إلى أن مفهوم «الخلود الرقمي» لم يعد حبيس الطروحات التجريبية أو الرؤى المستقبلية البعيدة، بل بدأ يتحول تدريجيًا إلى مسار واقعي تتضح معالمه يومًا بعد يوم. ففي هذا السياق، تعتمد الشركات ومراكز الأبحاث العاملة في هذا المجال على التدفقات الهائلة من البيانات الشخصية من خلال استخدام تطبيقات هذا العالم الجديد الذي سهل جمع البيانات الشخصيه والتي تشمل الرسائل والصور والتسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو، إضافة إلى أنماط التفاعل الاجتماعي، بهدف بناء نماذج رقمية قادرة على محاكاة الإنسان بدرجة متزايدة من الدقة.

وقد أتاح هذا التطور لأفراد العائلات والباحثين إمكانية التفاعل مع نسخ رقمية لأشخاص رحلوا عن عالمنا، سواء من خلال روبوتات محادثة متقدمة، أو صور رمزية ثلاثية الأبعاد، أو عبر بيئات واقع افتراضي تستحضر حضور الراحل بطريقة تتجاوز حدود الذاكرة التقليدية. ويأتي ذلك في ظل التوسع المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجالات الصحة والتعليم والإعلام، ليطرح سؤالًا جريئًا حول مدى إمكانية استمرار الوجود الإنساني بعد الموت. وفي هذا الإطار، تعمل شركات مثل HereAfter AI وEternime على تطوير خدمات رقمية لما بعد الوفاة، تهدف إلى إنشاء تمثيلات رقمية شخصية للأفراد المتوفين اعتمادًا على بياناتهم خلال حياتهم.

وخلال السنوات الأخيرة، بدأت تتبلور تطبيقات عملية تجسد هذا المفهوم، بدءًا من روبوتات المحادثة القادرة على إعادة إنتاج أسلوب الفرد في التواصل، وصولًا إلى تقنيات “إحياء الذكريات” القائمة على الأرشيفين الصوتي والبصري. ويترافق ذلك مع أبحاث متقدمة في مجال واجهات الدماغ–الحاسوب، تسعى على المدى البعيد إلى قراءة أو تخزين بعض الإشارات الدماغية، في تطور يعيد صياغة العلاقة بين العقل البشري والآلة.

وبينما يرى مؤيدو هذه التقنيات فوائد متعددة، من بينها تحويل إرث المفكرين والعلماء إلى مصادر معرفية تفاعلية، ومنح العائلات وسيلة لتخفيف وطأة الفقدان عبر أرشيف تاريخي حي، تبرز في المقابل تحديات أخلاقية وقانونية معقدة. وتشمل هذه التحديات أسئلة تتعلق بأصالة الهوية الرقمية، وملكية البيانات، ومدى مشروعية استغلال هذه النماذج لأغراض تجارية أو سياسية، وهو ما يجعل الخلود الرقمي موضوعًا مفتوحًا للنقاش والجدل في السنوات المقبلة.

يمثل الخلود الرقمي طفرة في مسار الوعي البشري، حيث يتجاوز حدود الفناء المادي ليحول تجاربنا ومعارفنا إلى إرث حيّ عابر للعصور؛ فمن خلاله لا يعود التاريخ مجرد نصوص صامتة، بل يتحول إلى حوارات تفاعلية نابضة مع رموز الفكر كالفراهيدي وابن الهيثم وطه حسين، مما يجعل الحكمة الإنسانية طاقة متجددة في الحاضر. ولا تقف هذه التقنية عند حدود المعرفة، بل تمنح الأبعاد العاطفية عمقاً جديداً بتوفير "عزاء رقمي" للأسر، يتيح لهم التفاعل مع الشخصيات الافتراضية لأحبائهم الراحلين عبر محادثات تحاكي أصواتهم وجوهرهم، مما يخفف من وطأة الغياب. كما يتيح هذا المفهوم للأجيال القادمة بناء روابط إنسانية مباشرة مع أسلافهم واستلهام قصصهم بكلماتهم الشخصية، بالتوازي مع تمكين المبدعين من تخليد أثرهم عبر "توائم رقمية" تواصل العطاء والابتكار بجانب الأحياء. ورغم اعتماد هذه الاستمرارية على ركائز تقنية صلبة كالحوسبة السحابية وسلسلة الكتل لضمان الأمان والخصوصية، إلا أنها تفتح باباً واسعاً للنقاشات الأخلاقية والفلسفية حول جوهر الروابط الاصطناعية، وتعيد صياغة فهمنا الكلاسيكي للهوية الإنسانية والوعي في عالم يتوق لتخطي قيود الزمن.

ومع ذلك ، فإنّ الآثار الأخلاقية والفلسفية لهذه التقنيات مُعقدة ومتعددة الجوانب. فإن تطوير هذه الصور الرمزية المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي يفتح الباب أمام تساؤلات أخلاقية وفلسفية معقّدة تتطلب دراسة متأنية. إذ إن إنشاء نسخ رقمية للأشخاص بعد وفاتهم قد يترك انعكاسات بعيدة المدى على فهمنا لمفاهيم الهوية الإنسانية والوعي وطبيعة الوجود ذاته. وفي هذا الإطار، يعبّر خبراء الأخلاق والفلاسفة عن مخاوف جدية من أن يؤدي استمرار الوجود الرقمي إلى إرباك مسارات الحزن الطبيعية، أو إلى نشوء فجوة اجتماعية جديدة تجعل من “الحياة بعد الموت” امتيازًا يقتصر على الفئات القادرة ماديًا.

ويُعدّ الجدل حول أخلاقيات إنشاء نسخ مُولّدة بالذكاء الاصطناعي لأشخاص متوفين نقاشًا مستمرًا، تحيط به مخاوف تتعلق بالخصوصية وملكية البيانات، فضلًا عن احتمالات إساءة الاستخدام، بما في ذلك تقنيات التزييف العميق والتلاعب بالمحتوى الرقمي.

وقد دفعت هذه الهواجس عددًا من المختصين في تقنيات الثورة الصناعية الرابعة—ومن بينهم المتحدث—إلى الدعوة لوضع إطار تشريعي واضح يحدّد مفهوم “الإرث الرقمي”، وينظّم آليات استخدام البيانات الشخصية، ويشترط الحصول على موافقة مسبقة قبل تحويل هذه البيانات إلى نماذج رقمية. ورغم أن السعي نحو الخلود يعكس رغبة وجودية أزلية في ترك أثر يتجاوز حدود الزمن، فإن التكنولوجيا، مهما بلغت درجة تطورها، قد تظل عاجزة عن استنساخ “الشرارة الإنسانية” والوعي الذاتي الفريد الذي يميّز كل فرد.

وانطلاقاً من هذا المنظور، أتفق مع الرؤية التي يتبناها قطاع عريض من الخبراء والمطورين، ومفادها، أن الخلود الرقمي لا يشكّل بديلًا عن الإنسان الحقيقي، بل يمثّل أداة مبتكرة لحفظ القصص والتجارب والحكمة الإنسانية. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا بلا إجابة حاسمة: هل يسعى الإنسان فعلًا إلى تجاوز الموت عبر التكنولوجيا، أم أنه يبحث فقط عن وسيلة تضمن بقاء أثره حيًا في الذاكرة البشرية؟


مشاهدات 107
الكاتب ضياء الجميلي
أضيف 2025/12/17 - 1:57 PM
آخر تحديث 2025/12/18 - 10:42 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 446 الشهر 13309 الكلي 12997214
الوقت الآن
الخميس 2025/12/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير