النظرة الشمولية لفن الصورة.. فوتوغرافيا الفنان ناصر عسّاف
جاسم عاصي
دأب الفنان الفوتوغرافي ( ناصر عساف ) ومنذ بواكير صباه في مصاحبة الكاميرا، حتى بدت توأماً له ، يتفحص بواسطتها ــ وأثناء تجواله في مدينة الفرات الأزلي الناصرية ــ كل ما حوله ، محتفظا ً بصور الواقع على نحو تسجيلي ، ملتقطا ً الشعبي والمعيشي من المشاهد اليومية ، ممعنا ً في رموز المدينة من المشرّدين أو المطرودين عن مجالهم في الحياة ، الذين يتخذون من أرصفة شوارعها متكأ لراحتهم بعد تجوال يومي قاسي ، وممن يتخذون من ــ فراكَين ــ القطارات غرفا ً يلوذون بها ، من قسوة الشتاء وحرقة الشمس ، بما يتوفر لهم فيها من أسّرة متنقلة . وممن يعودون إليها بعد هجرة المساءات إلى مأواهم البعيد على أطراف المدينة . شغلته كثيرا ً هموم المدينة التي جاورت أقدم حضارة في التاريخ القديم ، من عصر سومر ، غير أنها افتقدتها بتوالي الأزمنة المرّة ، كما افتقدت أنامل البياتي مفتاحه الذي أهداه له الساحر الهندي ، لكي يفتح به جنان الأمكنة ، ويلج إليها مطمئنا ً ، بينما ( عساف ) اتخذ من كاميرته المحمولة منذ صباه مفتاحا ً لفك لغز الحياة ، وكأداة سحرية لفتح باب الذاكرة وهي تشّرع صفحاتها للمرائي التي تنفتح أمام عينيه ، فما كان منه سوى أن يستعين بعين الكاميرا لتكون عونا ً له في هذا الكشف والتدوين الباهر . إذ يعتبر كاميرته مدوّنة للتاريخ الذي عاشه مع الآخرين في مدينة انخفضت كثيرا ً عن مستوى مجرى الفرات ، فاكتسبت سحريتها وأسطورتها بارتباطها بفم (أبو جدّاحة ).
لم يكن محتبسا ً في ذاته ، بقدر ما كان وما زال فنانا ً أمميا ً ، يتبع سحر الأمكنة والبيئة مهما ابتعدت عنه ، فيسعى إليها ، حاملا ً سجّله البليغ ( الكاميرا ) إلى كل الأمكنة والبيئات في الداني القاصي . لذا كان أرشيفه من الصور زاخر بالتنوع ، فما يبهره من الوجوه المعبّرة من العلامات المستثناة والمرسومة على ملامحهم . أو التي شكّلتها بالكامل ، يسارع لالتقاطها . فتمثّل مشهد البورتيهات على أحسن صورة من الانبهار المتحكم فيه ذائقته الفنية ، والذي سرعان ما أصبح فنا ً يسرد مظان هذه النماذج وجمالياتها وسر ملامحها السومرية الجذر . فهو بهذا يلاحق الجمال مهما اختلفت صورته ، ومهما أخفت عناصر الزمن بما أضفته من تراكم كالحزن على محيا النموذج ، فهو يُلاحق ما تنطق به ذاكرة الوجه البشري . ولم يأل جهدا ً من سفراته بين المدن ، فكانت الشناشيل خير الأبعاد الفنية الراقية التي أدهشته و نحتت صورتها في ذاكرته ، لما لتلك الأشكال من بُعد فني في إنشاء العمارة الشرقية ، التي لعبت أنامل الفنان العراقي البسيط التعليم في شحذ مخيلته والاستعانة بعمق الحرفة ودقتها . وأخذت منه بيئة الأهوار المجاورة لمسقط رأسه والمتاخمة للمدن الجنوبية ، فاتخذ من مشاهدها ثيمات تحكي لوعة أبناء الأهوار صغارا ً وشبابا ً و كهولاً ، نساء وصبيّات وعجائز ، حرف متنوعة ، تزخر بها المدن وبيئة الأهوار ، ابتداء من صيد السمك ، إلى بناء البيوت والمضايف من القصب والبواري والبردي. أمكنة مقدّسة وطبيعة ساحرة . لكنه لم يغفل أهم ما يهم التاريخ ، في تدوين وأرشفة مشهد المدينة أيام زمان . وكأنه يعلم أن التراجع في العمران عقاب لهذه المدن الوديعة ، التي لا تنتج سوى الثقافة والوعي من خلال ما تنجبه من أبناء . من هذا تعرّض أبناؤها للاضطهاد والهجرة الدائمة ، مطرودين من مدنهم مساقين إلى السجون والمعتقلات أو الموت والمنافي في المدن البعيدة .
لقد عمّق الفنان الحزن العراقي من خلال صوره ، لاسيّما متابعته للطفولة البريئة التي كانت وما زالت تتطلع إلى المستقبل المشرق الذي يضمن لهم حياة بريئة كبراءتهم ، وساحرة كسحر تاريخهم القديم . إنهم بالفطرة يتطلعون ، وبها يكبرون ويهرمون ، ثم وبسحر الأسطورة يغادرون إلى حيث الغموض الأزلي . إنها معادلة صعبة ، تبناها الفنان ( ناصر عساف ) من خلال تنوع جهده الفني ، الذي نراه بحاجة إلى تركيز ودراسة من قبل المتلقين و النقّاد . من هذا ارتأينا أن تكون قراءتنا لنتاجه الفني ، مصحوبة بأفق التخصص في التناول ، أي النوع والتوجه الفني الذي اشتغل عليه ، لكي نتوفر على مساحة من استيعاب تجربته هذه وإعطائها فرصتها النقدية .
البنية الفنية في الصورة /
حاول الفنان من خلال الأسود والأبيض في معظم صوره ، باستثناء البعض ، الذي كان اللون فيها قرين الاثنين . وهو مخادع ويعمل على تعميق بلاغة الأسود والأبيض . وهو لون افتراضي . إن بلاغة الأسود والأبيض ، أضفت على الصورة بُعدها الميثولوجي ، من خلال توازن الضوء والظِل ، باعتبارهما أبجدية كاميرته وحروفيتها . وكان التأثر هذا قد وسم كل الأشياء التي صورها ، سواء كانت بشرية ، أو طبيعية ، فظهرت جميعها بنقاء الطبيعة وما تضمره من جدلية وجودها . فنماذجه مساقة ضمن نسق الحياة ، التي يراقبها الفنان كثيرا ً ، حتى استوعب خصائصها ، فدفع بضوء عين كاميرته نحوها ، بقصد الكشف والأرشفة والأرخنة . إن سيادة القدرة على تجسيد الموجودات في الوجود ، أخذت بأبسط الوسائل الفنية ،إلا أنها لم تغادر الخيال الذي أضفى على الصورة الإمكانيات في التعبير ، ولم يغفل سيرة الأشياء وتاريخها ، بل اهتم بها ، وأرتكن إلى طقوسها ، متخذا ً إياها ملاذا ً يزخر به نتاجه من الصور .
إن الفنان نتاج بيئة متمكنة في تنوعها ، ونشأة عمقت تجربته وهيأت له مجالات حيوية وظفها لإنتاجه الفني . إذ كان نتاجه بهذا التنوع ، يندرج ضمن محاور عديدة ، تشعبت فيها الوسائل للتعبير ، وتوفرت على ما يغني مشهده الفوتغرافي ، بحيث تأصلت في نتاجه الطريقة التي ميّزته عن أقرانه . إن التنوع دليل البحث عن الهوية الفنية ، وكان لبحثه المتواصل المحدد بخوض تجربة الوصول إلى النادر من ألأمكنة ، والمدهش من البيئات ، والاستثنائي من الحالات والنماذج .