الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
اعادة توظيف الرموز في (رمق الهالات) للشاعرسوران محمد


نقد:

اعادة توظيف الرموز في (رمق الهالات) للشاعرسوران محمد

عبداللطيف فرحان

 

 

يشير أدونيس في إحدى مقابلاته إلى قوة الشعر ودوره البديل: "الشعر يضعف حيث يكون هناك مشترك عام، ويتلألأ حيث يكون بعد عن هذا المشترك العام". معتبراً أن الشعر يفقد بريقه عندما ينزلق إلى الشائع والمألوف، بينما يتوهج حينما يبتعد عن النمطية والتكرار. وهكذا يُلهمنا الشاعر المبدع باستمرار للبحث عن الجديد في الأدوات، الأساليب، والأفكار المتجددة بعيداً عن القوالب الجاهزة والصيغ التقليدية، مما يسمح للنص بأن يحاكي المتلقي وينشئ تفاعلاً ديناميًا معه. فهذا النهج هو انعكاس للحياة؛ حيث نرى أن تطور الأفكار يمضي جنباً إلى جنب مع حركة الزمن. هذه هي سنة الحياة فلا يتوقف دوران الارض مع تطور دفة الحياة، وهما يتحركان في هذه العلاقة الطردية، وهكذا أصبح الشكل الشعري و مضمونه مسألة ثقافية في وقتنا الراهن أكثر من أن يكونا التزاما متزمتا بقوالب الشعر التقليدية وملامحه ومواضيعه.

قد قيل إن الشعر الجاد يولّد دفئاً في الروح ويوقظ المشاعر الكامنة، لأنه يستثير العواطف لا من خلال الإفصاح المباشر، بل بالإيحاء والرمزية التي تستفز خيال القارئ وتشعل تساؤلاته.

 من هذا المنطلق، نجد أن استخدام الرمزية في الشعر يتماشى مع فلسفة التجريب والابتكار، حيث يُوظَّف الرمز لإعادة تشكيل المفاهيم السائدة وتحدي الحدود التقليدية للنصوص الأدبية. فالرمز يُضفي على النص بعدًا عميقًا من المعاني المحتملة، مما يعزز من غِنى القراءة ويحفز مشاركة المتلقي لفك شيفرة المعاني المخفية.

إذا تأملنا نص الشاعر سوران محمد "رمق الهالات" المنشور في جريدة الزمان بتاريخ 27/11/2025 من منظور تحليل الحقول الدلالية، نجد أنه وظّف الرموز بأسلوب مبتكر خرج عن المألوف. هدف هذا التوظيف هو تحفيز المشاعر وإشعال شرارة التفكير حول قضايا سياسية، اجتماعية أو ثقافية، محاولاً كسر القوالب التقليدية وتجاوزها. يضع ذلك النص بداية لمرحلة جديدة تنحاز للابتكار، حتى ولو عبر خطوات صغيرة نحو التحرر من المشترك العام الذي قد يجعل قراءة النصوص الشعرية متكررة ورتيبة. وهنا يأتي دور القارئ كشريك في عملية القراءة لفك طلاسم النص والتفاعل معه، مما يخلق حوارًا حيًا بين النص والمتلقي.

الرمزية ليست مجرد تقنية جمالية فحسب، بل هي أداة تعبير مُركّبة؛ إذ تتخطى المعنى الحرفي لتنقل القارئ إلى عالم أعمق وأكثر إبداعاً. مثال ذلك استخدام شخصيات أسطورية أو رموز طبيعية (كفصول السنة) لتمثيل حالات إنسانية معقدة، في محاولة للهروب من قيود الواقع وتقديم زوايا مغايرة لفهم التجربة الإنسانية. وعندما يوظَّف الرمز بعناية في النص الشعري، فهو يعمل على تكثيف التجربة الفنية عبر ترابطاته الدلالية والجمالية.

توظيف هذه الشخصيات في النصوص الأدبية يساعد على كشف ما قد يغيب عن ذهن القارئ، فقد يبدو النص غامضًا للوهلة الأولى، ولكنه يُظهر لاحقًا عمق التجربة الشعرية عبر تكثيفها. وعندما تصبح الصورة الشعرية بنية مركّبة، يلعب الرمز دورًا بتجميع المعنى والصورة معًا في وحدة متماسكة.

بالدخول من مدخل التضاد بين مصطلحي "الرمق" و"الهالات" الموجودين في عنوان النص، سنجد أن الجمع بين الكلمتين يحمل تضاداً بلاغياً يفتح الباب واسعاً على معاني مركبة كما تتجلى عبر الرموز المستخدمة. يبرز هنا الرمز الرئيسي "سنمار"، الذي حوّل الشاعر دلالته من رمزٍ للمغدورية - كما يشير التعليق الهامشي (جزاؤه جزاء سنمار) - إلى رمزٍ يعكس المساهمة في تأسيس بنية الاضطهاد، متكاملاً مع بقية الرموز الأخرى التي تتوزع بين الجلاد والضحية. أصبح نموذجًا مزدوجًا للضحايا الذين في الوقت ذاته ساهموا في بناء أدوات بطش خصومهم.

قراءة النص بتمعّن وتفكر تكشف عن ثراء هذه الصور ورمزية النصوص.

شخصية سنمار هي المحورية في هذا النص. سنمار الذي نعرفه هو المهندس البيزنطي الذي قام بتشييد قصر يُعرف بـ"قصر ذي الشرفات" في منطقة سنداد قرب القادسية بالعراق. استغرق بناء القصر عشرين عامًا ليكون مقرًا للملك النعمان. ولكن بعد أن أتم البناء وأفصح للملك عن وجود طوبة إذا أُزيلت انهار القصر بأكمله، قرر الملك مكافأته بطريقة مروعة بأن ألقى به من أعلى القصر، خوفًا من أن يكشف سر الطوبة أو يبني قصرًا منافسًا. فلربما يبحث الشاعر هنا بين مقاطع النص عن الموقع الحقيقي لهذه الطوبة بين المجتمعات، بينما لقي سنمار حتفه وكان يهوي من أعلى القصر، ونُقل عنه أنه تمتم أبياتًا تعبر عن خيانة الملك له: 

جزاني لا جزاه الله خيراً... إن النعمان شراً جزاني

النص يعبر عن فكرة الصراع الأبدي بين الثنائيات التي تتجذر في الطبيعة البشرية وفي الكون بشكل عام، مثل الظالم والمظلوم، السلطة والمثقف، الليل والنهار، وغيرها. يسلط الضوء بمهارة على العلاقة بين الضحية والظالم، حيث يتحول هنا الضحية (باني قصر الملك) تحولًا غير متوقع ليصبح سندًا للظالم، ولعب دورًا في تأسيس نظام الاستبداد من وجهة نظر الشاعر. هكذا يوجه الشاعر خطابه إلى روح سنمار أو مثيله في كل زمان ومكان، حيث يشمل الخطاب البشر جميعًا دون تخصيص منطقة جغرافية، لأن جوهر الصراع عالمي وممتد. الرمز هنا يجسد الافراد والشعوب التي تضحي بمبادئها في سبيل امتيازاتها، وهي بذلك تخسر كل شيء.

ان السلطة بطبيعتها ترتبط بالامتيازات والثروة والمراتب العليا، وللحفاظ على هذه الامتيازات تنشأ أحيانًا نزاعات وصراعات عنيفة. وتشعل الحروب والانقلابات السياسية والعسكرية لتعزيز الهيمنة، وتخلق التفاوت الطبقي والاجتماعي، وتقمع كل معارضة حتى ولو كانت تستند إلى الحق. الرموز هنا تتفاعل بشكل أوسع لتلغي الحدود بين المجتمعات، مقتربة من حقيقة واحدة مفادها أن الظلم هو ظلم أينما وجد. وهذه هي العبرة الخالدة التي يتركها الشعر

في سياق هذا النص الشعري الثري، نجد تصويرًا قويًا للضياع والألم وتساٶلا لما آل اليه أمورنا مذ ذاك الحين:

ها هو ابن الجرابعة يلوح من هناك

أمير، مسجون في قصرك

أين رميت أ‌صواتنا من شبابيكها؟

في هذا النص، يوجه الشاعر رسالته إلى كل من يمثل دور "سنمار" التاريخي بفعلاته الملتوية عبر الأزمنة، متسائلاً بشكل مباشر: هل تدركون حقاً ما صنعتم؟ أنتم من خلقتم هذه الأصنام ومن أريقت بسببكم دماء الشعراء، وارتُكبت الجرائم البشعة كقتل الأطفال جوعاً، مثلما حدث لمليون طفل عراقي نتيجة الحصار الظالم في تسعينيات القرن القرن الماضي، مجسدين في شخصية "عبدالرحمن بن جرابعة" المجوع المفقود. كما أنكم دفعتم الشباب إلى نيران الحروب الضروسة دون هدف واضح، لتُحتفى بموتهم وكأنها تضحيات أبدية تخدم مجد السلطة، بينما لم يكن الترحيب بعودتهم بسلام خيارًا مطروحًا. ذكر هنا الجندي الروسي "غينادي" الذي اختار طريق السلام بديلاً للحرب، رمزاً لنموذج الإنسان الذي يحلم بحياة آمنة.

وسط هذه الأنظمة الاستبدادية، قد يتحول الإنسان إلى عدو لأخيه الإنسان، وتُرفع الشعارات التي لا مكان فيها لمن يخالف فكر الحاكم أو يعارض نهجه. في هذا السياق، يؤكد الشاعر دوره الأساسي في استعادة الحقوق ورد الأمور إلى نصابها. من خلال قصائد تحمل روح الوعي والمثابرة، يواجه الاخطاء القاتلة في زمن هذيان الشعوب ويرفع قلمه في وجه الطغيان محذراً من أسوأ العواقب، إذ يشير إلى احتمال اندثار البشر والجغرافيا برمتها إذا استمرت هذه السياسات الطائشة. ينسجم هذا الموقف مع ما نادى به إدوارد سعيد بشأن أهمية رفض ترويض المثقف أو تهميشه من قبل السلطة. على المفكر والكاتب أن يكون حراً ومستقلاً، متحملاً المسؤولية في الأوقات العصيبة، ومؤدياً دوره الحقيقي بإنعاش الثقافة بمعناها الأوسع، بما في ذلك المخرجات الفكرية التي تشكل ضمير المجتمع.

وحين تدار الشؤون  كما هو الحال في معظم دول العالم الثالث بأساليب استبدادية قمعية ترتكز على التعذيب وكبت الحريات والنفي والاعتقال وتشويه الحقوق المدنية والإنسانية، فالوطن يتحول تحت هذه الظروف إلى مكان خالٍ من أي طموح حضاري أو تقدم يُرجى. بلد قد يصبح مجرد اسم على الخريطة يُمحى مع الوقت تحت مسمى "بلد الأشباح" كما عبّر عنه الشاعر بـ"تورينزا"، التي ستظل رمزًا لهذا الموت البطيء، إنه واقع يتناقض تمامًا مع رسالة الإنسان الكوني المبنية على إرساء قيم الأخوة والمحبة والسلام.

تورينزا!

توقف الزمن فيك

ولا تقرأ البوصلة الجهات

كأن معالمك اندثرت بين صهوات رابيات

***


مشاهدات 41
الكاتب عبداللطيف فرحان
أضيف 2025/12/13 - 1:27 PM
آخر تحديث 2025/12/13 - 11:28 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 793 الشهر 9836 الكلي 12793741
الوقت الآن
السبت 2025/12/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير